لماذا شُرع الاعتكاف؟ إنّ الوقت في اليوم أربع وعشرون ساعة، والليالي عشر، فالمسألة محدودة، فإنْ كان هناك خلط بين أمور دنيانا وأخرانا، وبين مشاغل أحوالنا وأوضاعنا وما نريده لطاعتنا ولعباداتنا، فإن ذلك سيفوت من الخير أكثره.
أليست أيامنا في عامنا كلها مشتركة بين أحوال دنيانا وأخرانا؟ أليست كلها مقسومة بحصة أكبر لأمورنا وخاصتنا وأحوال حياتنا وشئون أولادنا؟ أليس القليل منها في نهارنا، وربما اليسير اليسير من ليلنا؟! أفنضن بعد ذلك بليال عشر لا تزيد ولا تنقص عن هذا العدد؟ لذلك كان عليه الصلاة والسلام يجعلها خاصة للأمر الذي لا يجمع معه غيره، وهو الاعتكاف، أي: اللزوم والبقاء في مكان خاص -وهو المسجد- بنية العبادة لله عز وجل، فيتفرغ من شأن الخلق والخلائق إلى عبادة الخالق سبحانه وتعالى، وذلك من كمال العقل، ومن عظمة الإيمان، ومن حياة النفس والروح، ومن التعلق الصحيح الذي كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم بربه، وإقباله على طاعته، ورغبته في مثوبته، وحبه لنيل رضاه، ورغبته في أن يكون كما قال عليه الصلاة والسلام: (أما إني أتقاكم لله وأخشاكم له وأعبدكم له) صلى الله عليه وسلم.
قال ابن عمر في الحديث الصحيح عند البخاري: (إن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رأوا ليلة القدر في المنام، فقال عليه الصلاة والسلام -وقد أخبروه برؤاهم-: إني أرى رؤياكم تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحرياً لليلة القدر فليتحرها فيها) وغير ذلك مما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في شأن ليلة القدر.
فضائل هذه الأيام والليالي الفاضلة أكثر من أن تحصى، وإيجاز القول الذي ثبت فيها يدل على أن السلف لم يكونوا يحسنون كثرة الكلام مثلنا، ولا يزينون العبارات بالبلاغات كحالنا، وإنما يحسنون أعمال القلوب، وتحليق الأرواح، وسجود الجباه، وتسبيح الشفاه، والإقبال على الله عز وجل، فما كان عندهم بهرج كثير، ولا كلام مكرر، وإنما كانت عندهم قلوب خاشعة، ونفوس على الله سبحانه وتعالى مقبلة، وعبادة دائمة، ولذلك لم نجد في هذه الأحاديث ولا في تلك الأوصاف كلاماً كثيراً، ولا وصفاً متعدداً، وإنما هو الإيجاز الذي إذا تأملناه بهرتنا معانيه (كان يجتهد في العشر ما لا يجتهد في غيرها) كيف يكون هذا الاجتهاد من سيد الخلق صلى الله عليه وسلم؟! وكيف يكون اجتهاداً زائداً وكل أيامه ولياليه كانت اجتهاداً في طاعة الله سبحانه وتعالى؟!