النقطة السادسة: التأسيس والتدرج، وهذه مسألة ظاهرة عند كثير من الشباب، ولعل لها سبباً يختص بواقعنا أحياناً، فإن كثيرين منا مع الدراسات المنهجية والمدارس التي تستنزف من عمر المرء اثني عشر عاماً يفاجأ الشاب عندما يلتزم بأنه في سن لا بأس بها وليس عنده من العلم شيء؛ لأنه ربما لا يحسن تلاوة القرآن، ولا يحفظ إلا قصار السور، ولا يحفظ شيئاً من الحديث، ولم يقرأ شيئاً من الفقه، ولم يعرف شيئاً من التفسير إلى غير ذلك، فإذا به يندفع إلى طلب العلم اندفاعاً عاطفياً فتراه يريد أن يقفز قفزاً عالياً، وبقدر ما تكون قفزته عالية بقدر ما تكون نكسته شديدة وخطيرة، فلابد أن يرقى السلم درجة درجة، إذا أراد أن يقفز فليقفز درجتين لا بأس إذا كان عنده بعض القدرة، أما أن يقفز من أول الدرج إلى آخره لا شك أنه سيسقط سقطة تبقى أثر هذه القفزة طيلة حياته.
يقع كثير من الناس في أخطاء، فإذا أراد أن يتعلم مثلاً في الحديث قال: أعظم كتاب في الحديث (فتح الباري) لابد أن أبدأ بفتح الباري مباشرة، نقول هناك: (الأربعين النووية) وهناك (بلوغ المرام) وهناك (رياض الصالحين) وهناك (مختصر البخاري) و (مختصر مسلم) ثم تدرج في ذلك.
وكذلك إذا جاء إلى الفقه قال: (المغني) لابد أن أغتني من المغني، فذهب ليدرس المغني، فإذا به يقرأ في المسألة الواحدة ليس أربعة أقوال أو أربعة مذاهب بل أكثر من ذلك، ويقرأ دليل هؤلاء ودليل هؤلاء، ثم يقول ابن قدامة: وحجتنا في ذلك أو ودليلنا في ذلك، ويخرج بعد هذه المسألة وليس عنده إلا -كما يقولون- من كل بحر قطرة، فإذا سئل ما استطاع أن يجيب؛ لأنه لم يؤسس له علماً، فإن الأقوال المختلفة المتضاربة أو النقول العديدة والفروع الكثيرة تشوش الفكر؛ ولأنه خالي الذهن، إذاً: لابد أن يكون هناك تدرج في الطلب؛ لأنك إذا جئت الآن تريد أن أعلمك نظريات في الرياضيات كنظريات فيثاغورث أو غيرها، وأنت لا تعرف الأعداد ولا تعرف جدول الضرب، قل لي بربك: كيف تفهم؟! فإذاً لابد أن تؤسس، وكذلك لو جئت لك بكتاب حروفه كبيرة ومشكل بعلامات ملونة، لكنك لم تعرف الأحرف من قبل لا يمكن أن تقرأ، وعلى هذا كيف تدخل في فروع الفقه واختلافات الفقهاء وأنت لم تعرف أصل المسألة ولا قولاً واحداً فيها من قبل؟! وهكذا إذا جاء إلى التفسير قال: أبدأ بتفسير ابن جرير، ويذهب حدثنا، حدثنا، حدثنا، ويأتي في الآية الواحدة أو الكلمة الواحدة ربما بعشرة آثار أو أكثر من ذلك.
فإذا رجع للناس وسئل قال: يا أخي! في كل مسألة أقوال كثيرة واختلافات عديدة، وهي قد لا تكون اختلافات كما سبق أن أشرت في بعض الأمثلة، مثل قوله سبحانه: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر:32].
قالوا: السابق بالخيرات الصلاة في أول وقتها، والمقتصد الصلاة في وقتها، والظالم لنفسه الصلاة في آخر وقتها، أو الزكاة التي يؤديها وما معها من الصدقات، أو الزكاة فقط إلى آخر ذلك من الأنواع.
المهم أن التأسيس مهم جداً، أن يبدأ بأساس يكون كالقاعدة يستطيع أن يبني عليه، وأن يكون بعد ذلك التدرج، والأقوال في هذا كثيرة جداً، ولكني أرى كثيراً من الشباب يندفعون إلى طلب العلم اندفاعاً عاطفياً بغير تقدير لقضية العلم يجعلهم هذا الاندفاع يقفزون قفزاً لا يفيدهم علماً ولا ينتج لهم أدباً.
كذلك إذا جاء مثلاً في أمر العقيدة وأهمية العقيدة وكذا، قال: أقرأ الطحاوية أو ما هو أوسع منها، وإذا في الطحاوية من الردود على الفرق ما لم يعرفه ولم يسمع بالمصطلحات في هذا العلم، ويمر به مثلاً قول المعتزلة، من هم المعتزلة؟ ما سمع بهم من قبل أو يقال له: الكلابية أو كذا أو كذا، فتراه يخلط خلطاً عجيباً، وتمر به مسائل دقيقة تشوش فكره، ويضطرب لها عقله دون أن يحصل علماً.
إذاً: لابد من التدرج، ولذلك ذكر صاحب كتاب (تذكرة السامع): أن من لم يتقن الأصول حرم الوصول، لابد من أصول وأسس وإلا لن تصل إلى علم، وقال القائل أيضاً: من رام العلم جملة ذهب عنه جملة، وكذلك قيل: ازدحام العلم في السمع مضلة الفهم، يعني: يضل الفهم.
هنا مثال: لو أن عندك ورقة بيضاء صافية وكنت تكتب فيها جملة ثم تكملها في السطر نفسه وبعده الذي بعده، فإنك تخلص في آخر اليوم أو آخر الأسبوع بكلام منتظم قد يكون متفرقاً في أبواب، لكن إن كنت تسجل في هذه الورقة خبراً سمعته وحدثاً رأيته، وهذا بخط مائل وهذا في الوسط، وهذا بلون وهذا باختصار وهذا بتوسع، بقيت عندك الورقة مشكلة لا تستطيع أن تخرج منها فائدة واحدة، ولذلك لابد لكل فن من أصول تحفظ كما في مسألة الحفظ، وأبواب ذلك كثيرة.
إذاً: قبل أن يبدأ الطالب بالفقه المقارن لابد أن يأخذ فقهاً مختصراً في مذهب من المذاهب مجرداً عن الأدلة، ثم إذا فقه المسائل زيد له بعد ذلك في كتاب آخر أكثر توسعاً وفيه الأدلة، ثم بعد ذلك يكون في كتاب ثالث أكثر توسعاً وفيه بعض الآراء الأخرى وأدلتها، ثم يتوسع بعد ذلك في مقارنة المذاهب، ما الذي يحصل هنا؟ تمر به المسألة أول مرة ثم يعيدها في الكتاب الثاني ثم تمر عليه بتوسع في الثالث، فإذا بها ترسخ في ذهنه، أما عندما يأتي إليها وهي بأقوالها المتعددة المتشعبة لم يبق عنده أصلها، وإنما بقي عنده نتف منها وأقوال متفرقة عنها.
ولذلك على سبيل المثال: من أراد أن يدرس الفقه الحنبلي يبدأ بزاد المستقنع، ثم المقنع من بعده للخلاف المذهبي، ثم المغني للخلاف العالي، وكان لا يسمح للطبقة الأولى أن تجلس في درس الثانية وهكذا.
إذاً: لابد من المختصرات قبل المطولات، وعندي نقول كثيرة عن تدرجات كتب العلوم ليس هذا موضعها، ربما نذكر بعضاً منها في الجولات الآتية إذا أكملنا جولات في علوم القرآن وكتبه.
وذكر أيضاً ابن قدامة فيما يتعلق بالعلوم الشرعية حيث قال: الأصول: كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة وآثار الصحابة، والفروع: ما فهم من هذه الأصول من معاني تنبهت لها العقول، والمقدمات: هي علوم الآلة التي تجري مجرى الآلات كعلم النحو واللغة أيضاً لابد أن يفرق بين هذه العلوم، والمتممات: كعلم القراءة ومخارج الحروف وما يلحق بذلك.
لابد من هذا التدرج؛ لأنه مهم، وهذا التدرج على أنواع، منه: أن يبدأ بالقليل ثم بعد ذلك يتوسع فيه، وأن يبدأ باليسير ثم بعد ذلك بالصعب العسير، أما إذا بدأ بالعسير إما أن تنقبض نفسه ويرجع عن طلب العلم، وإما أن يكابر فيظن أنه فاهم وليس بفاهم، ولذلك في كتاب العلم من صحيح البخاري فيه مسائل نفيسة جداً من ذلك في إحدى التراجم قال: الرباني: هو الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره.
والمراد بصغار العلم: ما وضح من مسائله، وكباره: ما دق منها، أما غير الرباني فهو يعلمهم جزئياته قبل كلياته أو فروعه قبل أصوله أو مقدماته قبل مقاصده هذا الذي يخلط.
ولـ ابن خلدون كلمة جامعة أذكر جزءاً منها قال: اعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيداً إذا كان على التدريب شيئاً فشيئاً وقليلاً قليلاً، يلقي عليه أولاً مسائل من كل باب من الفن هي أصول ذلك الباب، ويقرب له في شرحها على سبيل الإجمال، ويراعي في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يرد عليه حتى ينتهي لآخر الفن، وعند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم، إلا أنها ملكة جزئية وضعيفة، وغايتها أنها هيأته لفهم الفن وتحصيل مسائله، ثم يرجع به إلى الفن ثانية فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها ويستوفي في الشرح والبيان ويخرج عن الإجمال، ويذكر له ما هنالك من الخلاف ووجهه إلى أن ينتهي إلى آخر الفن فتجود ملكته، ثم يرجع به وقد شدا فلا يترك عويصاً ولا مبهماً ولا معلقاً إلا وضحه، وفتح له مقفله فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته.
هذا وجه التعليم المفيد، أما غير ذلك فهو تشويش وليس تعليماً، وهذا أقوله عن التعليم المدرسي الذي عندنا، أرى أن التعليم السابق هو الناجح الذي يقتصر على علم أو علمين ثم بعد إمكانهما وإحكامهما ينتقل إلى غيرهما، وهذا فرق ما بين الطالب في المدرسة والجامعة، أن طالب الجامعة مواده أقل، فبالتالي عنده شيء من التركيز في التخصص، أما طالب المرحلة الأولى في الثانوي على وجه الخصوص، فهناك إحدى وعشرون مادة من كيمياء إلى فيزياء إلى قواعد إلى جغرافيا إلى تاريخ إلى بلاغة إلى نحو، يأخذ من كل بحر قطرة ويخرج من كل شيء بلا قطرة، وهذه من المشكلات، فتجد الطالب يتخرج من الثانوية وهو لا يجيد النحو أو اللغة، ولا يعرف الكتابة ولا الإنشاء، ولا يعرف الحساب والرياضيات، ولا يتقن الفقه أو التفسير أو الحديث أو التوحيد إلى آخر هذه الأمور، وهذا باب واسع فيه نقول كثيرة جداً.