النقطة الرابعة: أريد أن أشير إلى ظواهر أراها متفشية بين كثير من الشباب، يريدون طلب العلم على أسهل ما يكون، يريد الواحد من هؤلاء أن يكون مضطجعاً متكئاً في جو مكيف، وربما يروح عليه من يروح ويريد بعد ذلك ألا يقرأ وألا يحفظ وألا يراجع، وأن يبقى مع ذلك طالب علم، وربما يفتي في المسائل ويجيب كل سائل ويرتقي المنابر، وهذا لا شك أنه من أقبح الأمور.
ومن ضمن هذه الأمور: الضبط والحفظ، فطلب العلم بلا حفظ كالذي يكتب فوق الماء، فلو سطّر ما سطّر فإنه فوق الماء لا يبقى له أثر، ولذلك كانت الطريقة التعليمية الأولى تعتمد على الحفظ والفهم، ولم يقل أحد: إن هناك حفظاً بلا فهم، ونحن نريد أن نكون طلاب علم من غير حفظ، هذه في تصوري من خلال ما اطلعت عليه من التراجم وأحوال علماء الأمة لا يمكن أن يكون هناك طلب علم وتحصيل علم بلا حفظ مطلقاً، ولذلك انظر إلى ما كان عليه سلف الأمة وهذا يتعلق بالتدرج الذي سيأتي معنا.
أولاً: يبدءون بتحفيظ أبنائهم القرآن الكريم صغاراً، وعد إلى من شئت من العلماء في تراجمهم، منهم من حفظ القرآن وهو ابن سبع وهو ابن ست وهو ابن تسع وهو ابن عشر، وأقلهم من كان يتجاوز هذه السن أو قريباً منها ولم يحفظ القرآن، ثم بعد ذلك ينشط الطالب لحفظ المتون والكتب والأحاديث والمسائل.
إذاً: لا يمكن أن يستحضر المرء إلا بالحفظ، وكما قيل: علم لا يعبر بك الوادي لا يعمر بك النادي.
العلم الذي في رأسك وفي صدرك، تسافر وتقطع البحار وتصعد الجبال وعلمك معك، أما إذا كان علمك في الكراريس والكتب فلابد أن تجهز الصناديق وتدفع نقود الشحن، حتى إذا أردت علمك لابد أن ترجع إلى كتبك.
وهذه قصة تذكر للغزالي: أنه سئل فاحتاج إلى أن يراجع كتابه فقال: إذا كان الأمر كذلك فلا حصلت علماً، فاجتهد بعد ذلك حتى صار آية في الحفظ.
المهم أن الحفظ لابد منه، ولابد أن يعلم الشباب أن طلب العلم ليس بمجرد أن يسمع الشخص محاضرة؛ لأن بعضهم يأتي إلى درس علمي في فقه أو حديث أو تفسير في كتاب معين يأتي وليس معه ورقة ولا قلم يقيد به ولا كتاب ينظر فيه، ويلتمس أقرب عمود يتكأ عليه، ويحدق ببصره يميناً وشمالاً، ويعد اللمبات التي في المسجد والأبواب وكذا.
ويقول بعد ذلك: إنه طالب علم ويصر على هذا، وقد يكون متكبراً على غيره متعالياً عليهم، فهذا لابد أن نعرف أنه يتميز طالب علم عن غيره.
إن أول أولويات هذا التميز هو الحفظ، وقد كان حفظ السابقين عجيباً، ولو استطردنا في ذكر ذلك من تراجم العلماء لانقضى الوقت قبل أن نذكر جزءاً مما ذكر عنهم، حسبك بحفظ الشافعي وما يروى عنه، حتى المتنبي كان يشتغل بالوراقة، فإذا نسخ كتاباً حفظه.
كان الوراقون عندهم كتباً قد تصل إلى عشرة كتب أو عشرين كتاباً؛ لأنه لم تكن هناك مطابع، فيأتيهم من يرغب أن ينسخ له الوراق ما عنده من الكتب، فإذا نسخ ما عند هذا الوراق من الكتب حفظها وانتقل إلى وراق آخر؛ ليكتب كتباً أخرى فيحفظها.
وقيل للأصمعي: كيف حفظت ونسي أصحابك؟ قال: درست وتركوا.
يعني: راجعت.
وعن عون بن عبد الله بن عتبة قال: (أتينا أم الدرداء تحدثنا فتحدثنا عندها فقلنا: أمللناك يا أم الدرداء؟ فقالت: ما أمللتموني لقد طلبت العبادة في كل شيء، فما وجدت شيئاً أشفى لنفسي من مذاكرة العلم) أي: مراجعة لهذا الحفظ.
وقال ابن أبي ليلى: إن إحياء الحديث مذاكرته، فقال عبد الله بن شداد: يرحمك الله! كم من حديث أحييته في صدري قد كان مات.
وحديث: (تعاهدوا القرآن فإنه أشد تفلتاً من الإبل في عقلها) يقول ابن عبد البر: في هذا الحديث دليل على أن من لم يتعهد علمه ذهب عنه.
وذلك لأن العلم في وقت النبي صلى الله عليه وسلم هو القرآن لا غير، وإذا كان القرآن الميسر للذكر يذهب إذا لم يتعاهد فما ظنك بغيره من العلوم المعهودة؟! فإذاً: لابد من هذا المصير لهذا العلم.