ثم احتمل على نفسه رضي الله عنه، وطلب في شيء من خفة المرض عليه أن يحمل على المنبر؛ ليخطب الناس ويكلمهم، ويعهد إليهم ويوصيهم، فقام متثاقلاً مريضاً، فحمد الله عز وجل وأثنى عليه في آخر خطبة له سمعت منه، فقال فيما قال رضي الله عنه وأرضاه: أما بعد: أيها الناس! احذروا الدنيا، ولا تثقوا بها، فإنها غدارة، وآثروا الآخرة على الدنيا وأحبوها، فحب كل واحدةٍ منهما تبغض الأخرى، وإن هذا الأمر الذي هو أملك بنا لا يصلح آخره إلا بما صلح به أوله، ولا يصلح له إلا أفضلكم مقدرة، وأملككم لنفسه، وأشدكم في حال الشدة، وأسلسكم في حال اللين، وأعلمكم برأي ذوي الرأي، لا يتشاغل بما لا يعنيه، ولا يحزن لما ينزل به، ولا يستحيي من التعلم، ولا يتحير عند البديهة، قوي على الأمور، لا يخور لشيء منها ضده بعدوان ولا تقصير، يرصد لما هو آتٍ عتاده من الحذر والعلم.
أوجز الصديق تلك الخصال التي لابد منها في الرجال ليتسلموا مقاليد الأمور، ويحملوا هم الأمة، ويقوموا بأعباء الدين، ويحرصوا على سياسة الدنيا، إنهم الرجال الذين وصفهم الصديق أبو بكر رضي الله عنه بهذه الأوصاف، ثم أوجزها بأن قال: (إنها ممثلة في الفاروق عمر رضي الله عنه).
ثم كتب كتابه ووصيته لئلا يختلف المسلمون من بعد قوله، سجله كتابة بخط عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، يملي عليه وهو في مرض موته: (بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد أبو بكر في آخر عهده بالدنيا خارجاً منها، وأول عهده بالآخرة داخلاً فيها، حيث يؤمن الكافر، ويوقن الفاجر، ويصدق الكاذب، إني استخلفت عليكم بعدي عمر بن الخطاب، فاسمعوا له وأطيعوا، وإني لم آل الله ورسوله ودينه ونفسي وإياكم إلا خيراً، فإن عدل فذلك ظني به وعلمي فيه، وإن بدل فلكل امرئ ما اكتسب والخير أردت، ولا أعلم الغيب، {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:227]).