ما أدراك ما العدل والإنصاف؟! إنه أمر عزيز ثقيل لا تطيقه إلا النفوس المؤمنة الخالصة المخلصة.
إن في النفوس من الأهواء، ومن شوائب البغضاء والعداء ما يحملها على ظلم من تخالفه، بل على الظلم أحياناً بصورة عامة إذا كانت تريد تحصيلاً لمصلحتها، أو تحقيقاً لمنفعتها، والله جل وعلا يقرر العدل تقريراً عظيماً في هذا الدين بقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل:90]، ذلك هو أمر الله بالعدل على إطلاقه في كل حال، ومع كل أحد، وتحت كل ظرف، فإن العدل قيمة مطلقة، وهو من أسس هذا الدين، ومن أخلاقه العظيمة، ومبادئه الرائعة البديعة، ومن هنا جاء قول الحق سبحانه وتعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8] أي: لا يحملنكم بغض قوم على أن تظلموا وتحيفوا عليهم، ولو كانوا من الأعداء ومن غير المسلمين، فيكف بغيرهم من المسلمين؟! وذلك أمر مهم، فإن الفتن والأزمات تثير الضغائن، وتشعل نيران الأحقاد، ومن لم يكن له نفس مؤمنة، وعقل راسخ، فإنه يتحرك ويندفع مع أهوائه، ويقع في الظلم الذي حرمه الله عز وجل، كما ورد في الحديث القدسي عن أبي ذر عن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم عن رب العزة والجلال: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً؛ فلا تظالموا)، وكم من قضية تستطيل فيها الألسنة، وتتحرك فيها الأهواء؛ لتكون حينئذ ظلماً محضاً.
ولننظر مرة أخرى إلى مواقف خلص من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في حادثة الإفك، عندما سأل النبي صلى الله عليه وسلم المقربين منه قالت عائشة في روايتها: (فأما أسامة فأشار بالذي يعلم من براءة أهله، فقال: يا رسول الله! أهلك ولا نعلم إلا خيراً، وأما علي رضي الله عنه فقال: لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية تصدقك، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم بريرة مولاة عائشة فقالت رضي الله عنها: والذي بعثك بالحق! إن رأيت عليها أمراً أغمصه عليها، إلا أنها كانت جارية حديثة السن تعجن العجين فتنام عنه فتأتي الداجن فتأكله)، أولئك قوم لم يكن لأحد منهم أن يجور في حكمه، بل حموا أنفسهم وتوقفوا عند حدودهم، وأحسنوا ظنونهم.
ورحم الله أبا أيوب الأنصاري عندما نقلت له أم أيوب ما يقال ويشاع، فقال: يا أم أيوب! أكنت فاعلة؟ قالت: لا والله، فقال: فلـ عائشة خير منك، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم خير مني.
ذلكم هو الإنصاف والتجرد؛ أن تضع نفسك موضع من أرسلت عليه سهام التهم بغير بينة أو برهان، وأن تتحرى ألا تكون مجرماً معتدياً؛ حتى وإن كان المخطئ قد وقع في خطئه وثبت خطؤه؛ فإن حكمنا عليه ينبغي ألا يتجاوز حدود الخطأ، وإلا كنا عادلين فيما حكمنا عليه من خطأ، وجائرين فيما زدنا عليه مما لم يثبت له، وذلك هو الأمر الذي لابد منه.
ومن روائع العدل والإنصاف الذي لا يكون إلا مع شدة التحري والإيمان والورع، ما كان من أم المؤمنين زينب، وما أدراك من زينب؟ تقول عائشة عنها: هي التي كانت تساميني من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هي المنافسة التي قد يكون بينها وبينها شيء، فسألها النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (يا رسول الله! أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت إلا خيراً)، لم تنتهز فرصة لتشفي غليلاً، ولم تستجب لهوى قد يكون داعياً في النفس بطبيعتها لمن ينافس أو يكون في ذات المرتبة، قالت عائشة رضي الله عنها: (كانت هي التي تساميني من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم فعصمها الله بالورع، وأما أختها -وهي حمنة بنت جحش - فقد خاضت، وكانت تحامي عن أختها، فهلكت فيمن هلك)، فانظروا! صاحب الشأن ترفع واستعلى، وعدل وأنصف، وتورع وأخلص، وغيره فاته ذلك، فوقع وأخطأ وجار في حكمه، وذلك ما ينبغي أن نتنبه له.