وقد أرسل النبي صلى الله عليه وسلم في حجته إلى الناس يوم عرفة من يقول لهم: (كونوا على مشاعركم؛ فإنكم على إرث من إرث إبراهيم)، وقد كان أهل قريش في الجاهلية يقفون بعرفة وحدهم في غير موقف الناس، ويفيضون في غير مفاض الناس، فأراد أن يبطل ذلك، وأبطله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتنزلت به الآيات القرآنية، كما قال تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة:199]، ليعلن النبي صلى الله عليه وسلم حقائق الإيمان ومسلمات التوحيد فضلاً عن ذلك الفعل بالقول وبالمشاعر التي أشرنا إليها، والتضرع والمناجاة والخشوع والسكينة والتذلل من أجل صفات الإيمان، وهي منظورة ظاهرة في هذه الفريضة، بدءاً من الإهلال بالحج والتلبية بها، ومروراً بالدعاء الضارع الخاشع طوافاً وسعياً، وفي موقف عرفات، وفي ما كان عند الإفاضة، فإن النبي عليه الصلاة والسلام دعا يوم عرفات حتى غربت الشمس، ودعا بعد فجر مزدلفة حتى أسفر النهار، ودعا بعد رمي الجمرة الأولى والثانية، وكان يدعو بقدر سورة البقرة، فكان يلازم الذكر والدعاء والتضرع ومعاني الخشية والخوف والرجاء والأمل في الله عز وجل، وهذه هي المعاني الإيمانية العظيمة التي تجدها متبسطةً متجليةً متزايدةً في هذه الفريضة، وفي هذه المواقف العظيمة.
فلله ما أعظم هذه الفريضة التي تحيي الإيمان وتقويه! وتأمل هذا المشهد الوصفي في جزء من حديث جابر الطويل في حجة النبي صلى الله عليه وسلم، قال جابر رضي الله عنه في وصف طواف النبي عليه الصلاة والسلام عند وصوله إلى مكة: (فبدأ بالحجر الأسود فاستلمه، وفاضت عيناه من البكاء) صلى الله عليه وسلم، إنها مشاعر الإيمان المتدفقة، إنه ليس عمل بدن وزحام وإرادة انتهاء من الفريضة أو من العمل والنسك، بل هو حضور القلوب، وإحياء معاني الإيمان، حتى إنه عليه الصلاة والسلام عند استلام الحجر فاضت عيناه، فكيف به وهو يطوف، وهو يدعو، وهو يقف في عرفات، وهو يمر عليه الصلاة والسلام بتلك الأماكن والعرصات؟!