الحمد لله الذي جعل الإيمان أماناً وأمناً، وجعل البيت مثابةً للناس وأمناً، وجعل حجه فريضة، وتعظيمه شعيره، والصلاة فيه فضيلة، له الحمد سبحانه وتعالى على ما أفاض من الخيرات، وما ضاعف من الحسنات وما محا من السيئات، وعلى ما جعله لنا من أيام دهرنا من النفحات، وله الحمد سبحانه وتعالى ملء الأرض والسموات، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آنٍ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم الهدى، ومنار التقى، شمس الهداية الربانية، ومبعوث العناية الإلهية، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا جميعاً لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته.
وصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن الحج إيمان وإسلام وإحسان، ونحن إذ نقترب من تلك الأيام المباركة والفضيلة الجليلة نذكر أنفسنا بجماع هذه الأمور العظيمة، وجماعها الدين كله، كما ورد بذلك حديث جبريل المشهور الذي سأل فيه الرسول صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان، فأجابه ثم قال: (ذلك جبريل أتاكم يعلمكم دينكم).
موسم الحج موسم عظيم لتقوية الإيمان وزيادته، وموسم عظيم لتحقيق الإسلام واستسلامه، ومدرسة كبرى لتعلم الإحسان في معاملة الله عز وجل واستشعار مراقبته، وأي أمر أعظم عند المسلم من أن يقوى ويزيد إيمانه، وأن يتحقق إسلامه واستسلامه، وأن يكون في رتبة الإحسان في تعامله مع ربه سبحانه وتعالى؟ وكل ذلك يجده المسلم في هذه الفريضة العظيمة والشعيرة الجليلة.
إن الحج إيمان؛ لأن هذا الإيمان بما اشتمل عليه من تصديق القلب ونطق اللسان وعمل الجوارح يتجلي بوضوح في هذه الفريضة، بل وكل معاني الإيمان العظيمة من محبة الله، وخوفه، ورجائه، والتضرع إليه، والخضوع له، والاستكانة إليه، والتوكل عليه، والإنابة إليه، وغير ذلك من أعمال القلوب ومشاعر النفوس تتجلى في هذه الفريضة بدءاً من الانطلاق والتوجه إليها، بل بدءاً من معناها، فالحج في لغة العرب هو القصد، والحج في اصطلاح العلماء من أهل اللغة القصد إلى من يعظم.
وهو في مصطلح الشرع: قصد مكة والمناسك في زمن مخصوص لأداء مناسك مخصوصة.
فعندما ينوي الحاج حجه ويهيئ أمره تنبعث في نفسه وقلبه المشاعر، فقلبه معلق بالله، وغايته مرتبطة برضاه، ومشاعره متوجهة إلى بيته الحرام وإلى حماه سبحانه وتعالى، وذلك مبعث إيمان في قضية التوحيد والإخلاص لله عز وجل، قال عز وجل: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196]، إنها كلمات موجزة من كلام الحق جل وعلا، فهذه شطر آية تشتمل على المعاني العظيمة إيماناً وإسلاماً وإحساناً، فقوله سبحانه: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} [البقرة:196] أي أنه ليس مجرد أداء، بل هو إتمام وإتقان وإتيان بأركان وواجبات وسنن، مع حضور القلب وتحرك المشاعر وبذل المال وجهد البدن وانتقال من حال إلى حال، كل ذلك ضرب أو لون أو صورة مجتمعة تؤدي معنىً من معاني الإتمام والإتقان المأمور به في قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196]، فإن اللام لام اختصاص، وهي تدل على أنه ليس من قصد، ولا من نية، ولا من توجه إلى الله سبحانه وتعالى إلا ابتغاء رضاه جل وعلا؛ إذ ليس هناك شيء في القلب ولا شعور في النفس يتوجه لغير الله، بل هو محض توحيد كامل، ونبع إخلاص صافً لا يشوبه شائبة رياء ولا توجه أو تعلق بغير الله سبحانه وتعالى.
وفي الآية الأمر بالإخلاص في النسك، وإتقانه لله بكل شيء، بالمال لله، والجهد لله، والانتقال والتعب لله، والنية والقصد لله، والشعور والعاطفة لله، والدعاء والخضوع لله، والحركة والسكون لله، والدمعة والعبرة لله، كل ذلك لله.
وفي قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] معنىً إيماني عظيم ينبغي أن يستشعره الحاج وغير الحاج؛ لأن المسلمين جميعاً في هذا الموسم يشاركون -وإن لم يحجوا- في الفضائل التي في العشر الأوائل، وما فيها من ذكر وتذكير ببعض أعمال الحجاج، وما في الموسم كله من هذه المعاني، وتأمل فعل المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما ورد عنه من حديث أنس رضي الله عنه قال: (حج النبي صلى الله علي وسلم على رحل رث، وقطيفة تساوي أربعة دراهم أو لا تساوي، ثم قال عند إهلاله: اللهم! حجةً لا رياء فيها ولا سمعة)، رواه الطبراني وسنده صحيح.
ليست المظاهر ولا الأشكال، وليست الإمكانيات ولا الأموال هي الميزان، فقد حج سيد الخلق صلى الله عليه وسلم على رحل رث وقطيفة قد تساوي أربعة دارهم أو لا تساوي، ثم بين أن المقصد الأعظم هو تجريد القصد لله، وتحرير الإخلاص لله، فقال: (اللهم! حجةً لا رياء فيها ولا سمعة).