الأمر الثاني المصاحب لما سبق أن نصرنا لا يؤدي إلى كبر، وأن نصرنا لا يقود إلى خيلاء، وأن نصرنا لا يؤدي إلى فتنة النفوس بالإعجاب، ولا إلى الطغيان الذي يكون مع المنتصرين من غير أهل الإيمان والإسلام.
لما دخل النصارى بيت المقدس عام اثنين وتسعين وأربعمائة من الهجرة قتلوا في داخل المسجد وفي أنحائه نحواً من سبعين ألف نفس، حتى خاضت ركب الخيل في الدماء.
وفي يوم دخول التتار إلى بغداد قتلوا نحو ثمانمائة ألف نفس، وقيل: ألف ألف وثمانمائة ألف نفس.
كما ذكر ابن كثير في البداية والنهاية، واستحر القتل بأهل بغداد أربعين يوماً حتى سالت ميازيب البيوت من دماء المسلمين، وحتى بلغ نتن الجيف من أرض بغداد إلى بلاد الشام، وذلك هو طغيان النصر.
لكن انظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم دانت له مكة التي استعصى عليه أهلها، مكة التي كان أهلها أشد الناس إيذاءً له، مكة التي كانت مؤلبة ومحرضة عليه للقبائل، ولكل الأعداء الذين سعت قريش إلى أن تجعلهم في صفها ضد رسول الله عليه الصلاة والسلام، دخل عليه الصلاة والسلام مطأطئاً رأسه تواضعاً لله عز وجل، وفي بعض الروايات: (حتى مست لحيته ظهر دابته) عليه الصلاة والسلام، دخل وهو المنتصر لا في نشوة المنتصر، بل في ذلة العابد الحامد لربه سبحانه وتعالى، ولذلك لم تطغ نفسه، فلم يأت بالناس ليقص رقابهم ويسيل دماءهم، بل عفا عنهم، وجاءه من هرب كـ حكيم بن حزام وغيره، وجلسوا بين يديه يلتمسون عفوه فوجدوا نفسه سمحة بذلك، إلا من كان عدواً لله ولرسوله، من اجترأ على دينه أو سب وآذى رسوله صلى الله عليه وسلم، فأولئك بضعة نفر في أعلى روايات السيرة أنهم تسعة أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دماءهم وأمر بقتلهم ولو كانوا معلقين بأستار الكعبة.
لكن جمهور أهل مكة ما أصاب أحداً منهم من رسول الله عليه الصلاة والسلام ضر، ومكة نفسها ما هُدِم فيها بيت، ولا قلعت فيها شجرة، ولا أضرمت فيها نار، تلك هي انتصارات الإسلام، ولعلنا نستحضر يوم السابع والعشرين من شهر رجب في العام السابع والثمانين بعد الخمسمائة من الهجرة يوم دخل صلاح الدين منتصراً إلى بيت المقدس في يوم جمعة، ولعلنا نتذكر الخطبة التي خطبها القاضي الفاضل، وكلها تذكير بفضل الله، وإقرار بنعمة الله، واعتراف بضرورة شكر الله، ولعلنا نعرف صنع صلاح الدين الذي قضى دهراً طويلاً من عمره مرابطاً في جهاده في سبيل الله.