وهناك بداية أخرى في حياة النبي صلى الله عليه وسلم: وهي بداية استئناف الدعوة الإسلامية وإنشاء المجتمع المسلم في المدينة المنورة.
وكانت بدايتها الهجرة، وكانت الهجرة خطباً عظيماً وحدثاً جليلاً وصعوبة كبيرة ومخاطر عظيمة وطريقاً شائكة؛ فقد اجتمع وتآمر كفار قريش على قتل النبي صلى الله عليه وسلم ليمنعوه من الخروج إلى المدينة كما هو معلوم، والنبي عليه الصلاة والسلام اختار وقتاً في شدة الحر والظهيرة، وخرج واتجه إلى الجنوب بدل أن يتجه إلى الشمال، وبقي في غار ثور ثلاث ليال، وسار وأدركه سراقة بن مالك، ومشى وقتاً طويلاً، وكان الطلب يلحقونه، وكان ذلك بعد أن عانى أصحابه في هجرتهم، فكانت مشقة تلاها بعد ذلك فرج عظيم، وبدء إقامة دولة الإسلام، وإنشاء المجتمع المسلم.
وهكذا نرى بدايات كل أمر فيه قوة وشدة وأمانة عظيمة، وكذلكم كان فعله عليه الصلاة والسلام عندما وصل المدينة؛ فقد بنى المسجد أولاً، وآخى بين المهاجرين والأنصار ثانياً، وعقد المعاهدات مع اليهود ثالثاً، فأحكم الأمر من أوله، وصحح المسار من بدايته، وأخذ الأهبة على تمامها وكمالها، وهيأ الأمر بكل ما يحتاج إليه من البداية حتى لا ينفرط الأمر، ولا يصبح المراد بعد ذلك بعيد المنال.