وأول ما أبدأ به: المصارحة والمناصحة لا المزايدة والمبالغة: فإننا في أوقات المحن، وفي ظروف الفتن نحتاج إلى مصارحة ليس فيها مغالطة، وإلى مناصحة ليست مغطاة بالمجاملة، إذ في مثل هذا يتجلى موقف الإخلاص، ويظهر موقف الثبات، وتتجلى أحياناً صور غير مرغوب فيها، وليست بنافعة في واقع الحال من المزايدة والمنافقة والمجاملة في غير موضعها؛ لأن المسلم في أول الأمر وآخره إنما ينطلق من إخلاصه لله، وابتغائه لرضوان الله، وموافقته لنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقصده للمصلحة العامة للمسلمين، وذلك ما ينبغي أن يكون، وذلك ما نعلمه من ديننا، وما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه العظيم الذي يحفظه أكثر الناس: (الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولرسوله، ولكتابه، ولأئمة المسلمين وعامتهم).
سمت دائم، وصفة غالبة، وخصيصة ظاهرة لمجتمع الأمة الإسلامية، قوم يتناصحون بالحق والصدق والعدل، وبالأسلوب الذي فيه الحكمة، ومراعاة الظروف والأحوال، لا يغشون كما قال الحسن: المؤمنون بعضهم لبعض نصحة، والمنافقون بعضهم لبعض غششة، يغشون ولو بنفاق، ويغشون ولو بمغالطات ومزايدات ومبالغات، وذلك ما لا يكون من المسلم.
ولعل لنا وقفة مع حديث جليل عظيم رواه غير واحد من أهل السنن من رواية ابن مسعود رضي الله عنه، ومن رواية أبي الدرداء، ومن رواية زيد بن ثابت وغيرهم من الصحابة بألفاظ مختلفة متقاربة: عن ابن مسعود رضي الله عنه عن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة أئمة المسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن الدعوة تحيط من ورائهم) وفي رواية أخرى: (لا يغل عليهن صدر مسلم، مناصحة أولي الأمر، ولزوم الجماعة، فإن دعوتهم تكون من ورائهم) وفي رواية الدارمي: (والنصيحة لكل مسلم).
وهذا حديث عظيم في علاج كل قضية تعرض لك حتى ولو كانت فردية في دائرتك أو أسرتك: (ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم) أي: إذا وجدت لديه لم يدخل إلى قلبه حقد ولا خيانة، فلا يكون حينئذٍ منتصراً لنفسه، ولا معتدياً على غيره، ولا خائناً لدينه أو أمته، ما هي هذه الثلاثة يا رسول الهدى؟ قال: (إخلاص العمل لله) وذلك هو سبب النجاة، فإن الإخلاص طريق الخلاص، وإن التجرد مطية التقرب، وإن أحداً يشرك في عمله غير الله يحرم من التوفيق شيئاً كثيراً، وقد ورد حديث قدسي عن رب العزة والجلال أنه قال: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من أشرك معي فيه غيري تركته وشركه) فمن أراد غير وجه الله عز وجل من ظهور إعلامي، أو لفت نظر لبروز شخصي، أو منافقة ومداهنة لمصلحة يقصدها، فذاك لا يوفق لعلاج وحل أشكال، كما أنه في غالب الأحوال يحرم من التوفيق والهدى والبصيرة؛ لأن الإخلاص هو المؤشر والقائد الذي يسدد الأعمال، ويصوب الأقوال، ويسدد الآراء بإذن الله عز وجل، وهو الذي يجرد الإنسان من هوى نفسه وحظها؛ ليكون حينئذ أقرب إلى إصابة الحق، وإدراك الصواب بإذنه جل وعلا.
والنصح لولاة أمر المسلمين، وذلك لأن هذا معقداً من معاقد الخير والصلاح في الأمة، وتلك المناصحة بأساليبها الشرعية، وبطرائقها التي سرى وجرى عليها أئمة المسلمين، ومن خلال من يحسن ذلك ويتقنه من أهل العلم، ومن أهل الحل والعقد، لكنها قضية مهمة، حتى من تسلم منبراً كهذا أو غيره من المنابر عبر الصحافة أو الشاشات أو الإذاعات يجب عليه أن يخلص في قوله، وأن يسدي النصح كاملاً بأسلوبه الصحيح، ومنهجيته الشرعية المنضبطة، فإن أحداً سيما في أوقات يكون فيها بعض الإشكال أو الفتن أو المحن لا يحتاج إلى مزيد من المغالطات أو المجاملات بقدر حاجته إلى وضع النقاط على الحروف، وإلى بيان الحق بالأسلوب المعتدل المتوسط، الذي كان يقول به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يعرض في وقت يحسن فيه التعريض، ويصرح في وقت يصلح فيه التصريح، ويعالج الأمر بكل ما يؤدي إلى حصول المقصود ومنع المفاسد.
ونلحظ كذلك من بعد ما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم: (ولزوم جماعتهم) وهنا لا نقول همسة، بل صرخة لكل من يرى اعوجاجاً ويريد تقويمه، أو خطأً ويريد تصويبه، فليدرك أنه لا ينبغي أن يخرجه نقده ولا نصحه ولا ظنه بأنه يأمر بمعروف أو ينكر منكراً، وأن ذلك ينبغي أن يكون منضبطاً بلزوم جماعة المسلمين، وعدم الخروج عنها، وعدم شق صفها، وعدم إثارة البلبلة والفتن فيها، فإن رأى أن منكراً ينكره، أو قولاً يقوله قد يحصل به مثل ذلك، وتعظم به الفتنة، وتكبر به الشقة، ويستعدى به أعداء الإسلام على أهل الإسلام، فإن إمساكه عن ذلك النهي عن المنكر هو الواجب الشرعي في حقه، لأنه إذا عظمت المفاسد وقلت المصالح يجب الإمساك عن ذلك الفعل.
وإن المؤمن لا يندفع مع دوافع طبعه، ولا مع ردود فعله، ولا مع عواطف نفسه، إن أخذته الحمية أو الغيرة الإيمانية والإسلامية فليعلم أنه منضبط بضابط الشريعة الإسلامية، وكم كان من مواقف الصحابة والسلف رضوان الله عليهم ما أمسكوا به عن أمور كانوا يرون أن إنفاذها موافق للشرع، لكنه في وقت وحال معين قد يكون مترتباً عليها أعظم مما يراد من المصالح فتركوه، بل إن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم قد سن ذلك وشرعه، وبينه كما في الصحيح عند البخاري وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال صلى الله عليه وسلم: (لولا أن قومك حديثو عهدهم بإسلام لنقضت الكعبة، وأعدت بناءها على بناء إبراهيم، وجعلت لها بابين) وقد بوب البخاري على هذا الحديث: باب ترك الأمر مخافة أن يؤدي إلى ما هو أعظم منه، واستنبط ذلك ابن حجر وغيره من العلماء، فإن الرسول ترك ذلك لأنه سيؤدي إلى أمر أعظم من تحقيق تلك المصلحة.
وغير ذلك قد قال به أهل العلم كالإمام أحمد في أحاديث الأئمة، وكالإمام مالك في أحاديث الصفات، وكالإمام محمد بن الحسن في الغرائب، أمسك بعضهم حتى عن رواية الأحاديث لعامة الناس إذا كان الوقت يسبق فيه إلى الأذهان أفهام خاطئة، وقد ذكر الشاطبي رحمه الله: أن ذكر القول في غير موضعه مما يترتب عليه الفهوم والأعمال الخاطئة ضرب من ضروب البدع، واستشهد بقول علي رضي الله عنه في الصحيح: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟!)، وقول ابن مسعود رضي الله عنه عند مسلم في الصحيح: (ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة).
وهذه كما قلت صرخة لا همسة لكل من تحمله الغيرة والحمية على الإسلام وأهله أن يعرف أن الأمر ليس باختياره، وأنه لا بد أن ينضبط بهذا الضابط، وهذا الضابط يجمع الأمة ولا يفرقها، ويوحدها ولا يضعفها، ويجعل الإصلاح من داخلها وليس من خارجها، ومن شق عصا الطاعة وفرق الجماعة فإن الخلل في فعله والضرر من إصلاحه أعظم، وتترتب عليه من المفاسد ما الله سبحانه وتعالى به عليم.