أولاً: الدعوة عزة وهداية لا ذلة وغواية، ونعني بذلك: أن نحافظ في مواجهة أعدائنا على عزة نفوسنا، وإن كسرنا أو هزمنا في ميدان مادي أو في بلد بعينه أو في زمن بعينه أو نحو ذلك؛ فإن الإنسان المؤمن لا يُهزم في عزته وفي قوة إيمانه وفي عزيمته الماضية، كما حصل من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم بعد غزوة أحد.
وربعي بن عامر مثل حي قوي في هذا المعنى؛ فإنه دخل إلى أبهة الملك عند الفرس فلم يشغله ذلك، ولم ينبهر به، ولم يوقع في نفسه شيئاً من الضعف أو الاستعظام لأعدائه، بل قال قولته الشهيرة عندما سئل: ما الذي جاء بكم؟ فقال: (لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة).
وبهذا الموقف هو يعلن عن بيان قدرته على المواجهة والثبات، ويغزو بذلك عقول القوم وقلوبهم، فإن أولئك الأعداء كانوا مثل الذين نعرفهم اليوم في ضلال وضياع وحيرة وشك، وكثيرٌ منهم على فساد وظلم وفجور وعهر وفسق، وكثير من الشعوب التي تحت هذه القيادات الظالمة الجائرة المجرمة يحتاجون منا أن ندعوهم إلى الله عز وجل، ويحتاجون أن نتمثل الإسلام، ونعتز به، والذي لا يعتز بدينه لا يعزونه، والذي لا يحترم مبدأه لا يحترمونه.
اليوم نرى بعض المسلمين قد ذلت نفوسهم وكأنما هم أقزام أمام أعدائهم، وقد انبهروا بهم، بل بعضهم قد يعظمهم تعظيماً يوحي لك أنه يرى أن الحق والخير والصواب والهدى إنما هو عندهم، وهذه قضية خطيرة لابد من الالتفات لها.
ونقف وقفات من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة الصحابة؛ لنعرف أهمية هذا الجانب: في أعقاب أحد، وبعد انجلاء غبار المعركة بقليل جاء أبو سفيان منتشياً مفتخراً، جاء وهو يسأل: هل فيكم محمد -صلى الله عليه وسلم-؟ هل فيكم أبو بكر؟ هل فيكم عمر؟ فسكتوا عنه، ثم أجاب عمر، فأراد أبو سفيان أن يبين أن انتصاره العسكري أو المادي هو انتصار عقدي مبدئي أخلاقي حضاري، فقال: اعل هبل، فقال عليه الصلاة والسلام: (أما تجيبونه؟ قالوا: ما نقول يا رسول الله؟! قال: قولوا: الله أعلى وأجل)، ثم قال: العزى لنا ولا عزى لكم، فجاء
صلى الله عليه وسلم ( الله مولانا ولا مولى لكم)، ثم قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سجال، وجاء
صلى الله عليه وسلم ( لا سواء؛ قتلاكم في النار وقتلانا في الجنة)، وفي ذلك الوقت كان المسلمون في كسرة وشبه هزيمة في تلك الجولة، وكان منهم من استشهد، وكانت الحيرة قد ضربت في صفوفهم، لكن ذلك لم ينل من عزتهم، ومن شموخهم بدينهم؛ حتى لا يستطيعوا أن يقفوا ويثبتوا، وأن يبينوا ويوضحوا ويغيروا أفكار الآخرين، ويبدلوا آراءهم، بل بقوا أعزة، والناس يتساءلون: كيف هذا ضعيف قد هزم، ولا يزال مستعلياً، ولا يزال مفتخراً؟! إن هذا يلفت الأنظار، ويجعل الآخرين يفكرون أن هناك سراً، وأن هؤلاء الناس عندهم مبدأ قوي أصيل.
نحن نعرف أن الكافرين يحتاجون إلى دعوة، وبعض المسلمين يقيمون في بلاد الكفر مثل أمريكا وغيرها، وتجد بعضهم -وخاصة مع هذه الأحداث- ربما أصبح يتوارى بدينه، ويريد ألا يظهر إسلامه، وليس هذا من باب المداراة المطلوبة في كثير من الأحوال، ولها صور شرعية، بل بعضهم قد بلغ به الأمر مبلغاً أخطر من ذلك.
ونذكر بما وقع للصحابة رضوان الله عليهم عندما هاجروا إلى الحبشة، وكانوا غرباء بعداء، وجاء عمرو بن العاص ومن معه يريدون أن يؤلبوا النجاشي عليهم، فجاء بهم النجاشي ليسمع منهم، فأي شيء قالوا؟ هل قالوا: نحن قلة قليلة دعونا نعطيهم من القول ما يريدون، وغيروا وكونوا دوبلماسيين، وأعطوا صورة تنم عن الحضارة، واعترفوا -كما يقولون- بالرأي الآخر؟ ماذا قال جعفر رضي الله عنه؟ لقد قال كلمات فيها العزة، وفيها الدعوة والهداية، فكان من قوله رحمه الله: (كنا قوماً أهل جاهلية؛ نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا لنعبد الله وحده سبحانه وتعالى، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم، ونهانا عن الفواحش) إلى آخر ما قال.
ثم قال عمرو بن العاص الداهية المحنك في اليوم التالي: لآتينهم بما يبيد خضراءهم، فجاء إلى النجاشي وقال: إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولاً عظيماً! وعيسى عند النصارى بعد أن دخل التحريف إلى ديانتهم هو الله أو ابن الله، وعند المسلمين هو نبي، فجيء بهم ليسألهم! ماذا عندهم في هذا؟ وهي قضية فاصلة؛ لأنهم إن قالوا ما يخالفه فقد يكونون عند ذلك هالكين، فأي شيء قالوا؟ عندما سئل جعفر عن ذلك قال: نقول فيه ما قاله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: (هو كلمة الله ألقاها إلى مريم وروح منه)، فقال النجاشي: (ما عدا ما قلت عودي هذا)، فنخرت البطارقة لموافقة النجاشي للمسلمين، فقال: (وإن نخرتم).
فانظروا إلى هذا الموقف كيف كانت فيه العزة، وكيف كان فيه نشر أنوار الهداية والدعوة، ولو أن المسلمين المعاصرين اعتزوا بإسلامهم لكان ذلك أعظم مواجهة لأعدائهم.