الاستقامة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.

أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، فاتقوا الله في السر والعلن، واحرصوا على أداء الفرائض والسنن، واعلموا أن من سمات أصل هذا الدين الاستقامة، وهي ملازمة النهج الصحيح الذي ثبت بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولقد أمر المصطفى عليه الصلاة والسلام أمراً واضحاً بالوسطية والسماحة واليسر بعيداً عن تلك الأطراف الذميمة من الإفراط والتفريط أو الغلو والتشديد.

كما في قوله جل وعلا: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا} [هود:112]، أي: لا تزيدوا عن الحد، ولا تتجاوزوه حتى في معاملة الأعداء، فإن ذلك من سمة أهل الإسلام: العدل والإنصاف والاستقامة، كما قال جل وعلا: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [الشورى:15]، فليس هناك ثمة طغيان، وليس ثمة تفريط وترك واتباع للأهواء موافقة للأعداء، كما قال عليه الصلاة والسلام: (استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير دينكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن)، رواه ابن ماجة بسند صحيح، أي: لن تستطيعوا البلوغ إلى الكمال، فاستقيموا كما جاء في الحديث الآخر تفسيره: (سددوا وقاربوا)، أي: اجتهدوا، ليس المقصود باليسر ولا بالسماحة الأخذ بالأدنى، بل قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المثل في الأخذ بالأعلى من الأمر المشروع والعبادة العظيمة، مع ما كان له من خصائص لم يشاركه فيها غيره من الصحابة، ونبههم على ذلك أنه ليس كمثلهم، وأمرهم ألا يفعلوا مثل فعله فيما هو من خصائصه عليه الصلاة والسلام، كما في قصة النفر الثلاثة الذين رأوا أن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم قليلة وقالوا: قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فبين سوء فهمهم، وقال: (ما بال أقوام يقولون: كذا وكذا، عندما قال أحدهم: أما أنا فأصلي ولا أنام، وقال الثاني: أما أنا فأعتزل النساء ولا أتزوج، وقال الثالث: أما أنا فأصوم ولا أفطر، فقال عليه الصلاة والسلام: أما أنا فأصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني)، فبين عليه الصلاة والسلام الاستقامة في سائر أحواله وأعماله صلى الله عليه وسلم.

ولعلنا في وقفتنا الأخيرة نشير إلى أصل المعنى الذي يقع في أهل الغلو خروجاً عن هذه السمات من وسطية ويسر وسماحة واستقامة هي من صميم هذا الدين، وهي الحد المشروع الذي يعد الغلو خروجاً عنه، روى الشيخان في صحيحيهما صفة جامعة من جوامع كلم المصطفى صلى الله عليه وسلم في وصف أهل الغلو، عندما جاءت القسمة المشهورة، وجاء الاعتراض من ذلك الرجل على روايات مختلفة (عندما قال للرسول عليه الصلاة والسلام: إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله! وفي رواية: لم تعدل! فقال عليه الصلاة والسلام: من يعدل إن لم أعدل؟! ثم وصف ذلك الرجل فقال: يخرج من ضئضئ هذا أقوام يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان).

ومن هنا قال أهل العلم: إن السمة الجامعة لكثير من فروع الغلو ترجع إلى هذين الأمرين: الجهل بالقرآن والشرع كما قال في هذا الحديث: (يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم)، قال الشاطبي في معناه: يأخذون أنفسهم بقراءة القرآن لا يتفقهون فيه ولا يعرفون مقاصده.

وقال النووي رحمه الله: ليس يصل إلى قلوبهم أي: القرآن؛ لأن المطلوب تعقله وتدبره، وهذا لا يحصل منهم، والجهل هو الباب الأعظم والأكبر للدخول إلى هذه المزالق الخطيرة، ويترتب عليه ما يترتب عليه، وقد قال ابن عمر رضي الله عنهما في مثل هذا المعنى: (انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها في المسلمين) لم يفقهوا أسباب النزول، ولم يفقهوا مقاصد الألفاظ ودلالاتها ومعانيها، ولم يفهموا بقية النصوص الشرعية التي تكمل بها الصورة، وينتقل حينئذ الأمر إلى السمة الثانية وهي التكفير للمسلمين، وبالتالي استحلال دمائهم كما قال صلى الله عليه وسلم: (يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان)، وذلك ما سنشرع في الحديث عنه، في الجمعة المقبلة إن شاء الله.

نسأل الله عز وجل أن يجنبنا الغلو غير المشروع، وأن يجنبا التفريط في الأخذ بأمر الله سبحانه وتعالى، وأن يجعلنا من أمة الإسلام الوسط الآخذة بأمره سبحانه وتعالى، والآخذة بهدي رسوله صلى الله عليه وسلم.

اللهم ردنا إلى دينك رداً جميلاً، وخذ بنواصينا إلى طريق الحق والسداد، وألهمنا الرشد والصواب، اللهم اهدنا واهد بنا، واجعلنا هداة مهديين.

اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى، اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا، اللهم إنا نسألك لقلوبنا السلامة والعافية، ولأبنائنا الصحة والقوة، ولمقاصدنا الإخلاص وإرادة وجهك الكريم يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الصالحين، وأن تكتبنا في جندك المجاهدين، وأن تجعلنا من ورثة جنة النعيم.

اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيها أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء! اللهم مكن في الأمة لأهل الخير والرشاد، واقمع أهل الزيغ والفساد، وارفع في الأمة علم الجهاد، وانشر رحمتك على العباد، وانشر الأمن في البلاد برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم إنا نسألك أن تبرم لهذه الأمة ما يعلي رايتها، وما يعز دينها، وما يوحد صفها، وما يقوي شوكتها، وما يسدد رميتها، وما ينصرها على عدوها يا رب العالمين! اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في سبيلك في كل مكان يا رب العالمين، اللهم وحد كلمتهم، وأعل رايتهم، وسدد رميتهم، انصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين! اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق ولي أمرنا لهداك، واجعل عمله في رضاك، وارزقه بطانة صالحة تدله على الخير وتحثه عليه يا سميع الدعاء! اللهم اجعلنا من عبادك المؤمنين، واجعلنا من الذين تتوفاهم على حقيقة الإسلام يا رب العالمين! نسألك اللهم أن تجعل آخر كلامنا من الدنيا (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) يا أكرم الأكرمين! يا أرحم الراحمين! عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم صل وبارك وأنعم على نبيك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

{وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].

طور بواسطة نورين ميديا © 2015