المدرسة المادية هي التي تجعل حساب المادة حساباً وحيداً، فإذا جاءت في قاموس المواجهة والنصر والهزيمة حسبت عدتها من العتاد والسلاح والعدة وغيرها ثم قالت: لا يمكن.
وإذا جاءت في مسائل معتادة للناس أخذت بالأسباب، وجعلت هذه الأسباب المادية هي وحدها الحكم، ونسيت ما وراء ذلك من قدر الله سبحانه وتعالى، من نصر الله سبحانه وتعالى، من دفع الله سبحانه وتعالى، وكل ذلك أدلته في القرآن واضحة.
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38]، {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُم} [محمد:7]، {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:249].
فالماديون -للأسف- تغلغلت أفكارهم حتى في مجتمعاتنا، أصبح الناس الآن إذا قيل: قوى عظمى خافوا، وإذا قيل: لا نستطيع مسألة من المسائل قالوا: هذا لا يمكن.
وكذلك المريض أخذ الطب وسيلة وحيدة لا يوجد غيرها، لم يكن عنده نوع توكل على الله، ولا نوع اتجاه إلى الله، ولا نوع سؤال لله سبحانه وتعالى.
وكل هذه المثالب أو هذه المشكلات يجمعها مثلب واحد ونقيصة مهمة، وهي أن هذا النوع من الانطلاق يلغي شيئاً مهماً في حياة البشرية كلها، وهو وصف العبودية للخلق، ووصف الألوهية والربوبية لله سبحانه وتعالى.
وقد ذكر ابن القيم رحمة الله عليه في فوائده أن كل نقص في الإنسان يقابله كمال عند الله سبحانه وتعالى، ليبقى العبد دائم الافتقار لله جل وعلا، فقد ركبت أيها العبد من العجز لتنظر إلى كمال قدرة الله سبحانه وتعالى، وركبت من الفقر لتنظر إلى كمال غنى الله سبحانه وتعالى.
فإذا أخذ الإنسان بأسباب المادة وقع في هذا، ومثال ذلك من القرآن قصة قارون: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78].
أي: ليس هناك فتح ولا تيسير ولا توفيق ولا رعاية ولا عناية من الله سبحانه وتعالى.
فكانت النتيجة {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ} [القصص:81]، فكل من أخذ بأسباب المادة وحدها وقطع أسباب الله سبحانه وتعالى فإنه يكون مصوراً لصورة قبيحة، وهي انفصال العبودية عن الإلهية، أو أن هذا الإنسان أصبح مستقلاً بذاته غير مفتقرٍ -عياذاً بالله- إلى ربه ومولاه سبحانه وتعالى.
ولذلك المؤمنون حينما كان يخالطهم بعض اعتماد -ربما كان فيه زيادة عن الحد المطلوب- بقوتهم كان العقاب يأتيهم والتربية تأتيهم من الله سبحانه وتعالى {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} [التوبة:25] فقط كلمات قالوها، قالوا: (لن نغلب اليوم من قلة).
هذه الكلمة فقط، لكن لأنهم كانوا على الإيمان والكمال فكان كل يسير من التقصير يعاقبهم الله سبحانه وتعالى عليه، ويربيهم بما يقدرون عليه من البلاء، حتى يعلم أثر هذه الأمور في حياة الناس، ومشكلة الناس اليوم أنهم يرتبطون بأسباب المادة وينسون أسباب السماء في كثير من الأحوال والوقائع.
فنجد هنا هذا المعنى حينما ينقطع الإنسان عن هذه الأسباب الإلهية، يلغي هذا الجانب من العبودية الذي هو حياة الكون كله {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، وهذا الإنسان هو الذي خلقه الله سبحانه وتعالى وسخر له ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه، فغاية هذا الكون كله هي عبوديته بتوحيد الله سبحانه وتعالى، فإذا اعتمد على المادة ونسي أسباب السماء فكأن هذا نوع الغاء للعبودية، ونوع اجتراء على إلاهية الله سبحانه وتعالى، وكون كل أسباب الدنيا والآخرة بيده جل وعلا، ولذلك قال: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} [التوبة:25]، فمباشرة جاء العقاب من الله سبحانه وتعالى لهذا الأمر.
والله جل وعلا قال: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165]، الربط بالسبب الذي هو نوع من التعلق بالله سبحانه وتعالى، إما موافقة لأمره أو تخلفاً عن أمره، فلما كان تخلفهم عن أمر رسول الله عليه الصلاة والسلام في أُحد بشيء يسير أو بأمر واحد جاءت العقوبة من الله سبحانه وتعالى.
وهذا لا يكون إلا عندما يكون العبد في درجة من الإيمان والكمال، ينزل الله سبحانه وتعالى له من البلاء ما يذكره بخطئه وما يمحو عنه ذنبه، أما غير هؤلاء من الناس فإن قدر الله قد يجري باستدراجهم، فيملي لهم سبحانه وتعالى، ولكنه يمهل ولا يهمل جل وعلا {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102].
فإذاً هذا المعنى عند أهل الإيمان يربطون به السبب المادي، فكان أحدهم يقول: إني إذا أذنبت الذنب أجد ذلك في خلق زوجتي ودابتي.
فكلما حصل سبب مادي ربطه بسبب معنوي يصله بالله سبحانه وتعالى.
أما اليوم فهذه النظرة المادية قد طغت على الناس، فإذا جاءت الزلازل فسروها تفسيراً مادياً، قالوا: ضعف القشرة الأرضية وغير ذلك.
ونسوا أن يقولوا: إن ذلك قدر من الله، وإن له فيه حكمة، وإنه قد يكون مرتبطاً بعقوبة من الله سبحانه وتعالى.
كما بين الله جل وعلا أنه ما من شيء يقع إلا بما كسبت أيدي الناس ويعفو سبحانه وتعالى عن كثير.
فهذه المدرسة المادية التي أهملت أسباب السماء طغت على كثير من مجتمعات المسلمين، وصاروا لا يلتفتون إلى هذه المعاني، وهي لب وجوهر من جواهر العبودية له سبحانه.
وحقيقة الإيمان من توكل وتعلق وربط كل شيء في هذا الكون بموافقة أمر الله ورضا الله سبحانه وتعالى وتوفيقه، أو بمخالفة أمر الله سبحانه وتعالى وسخط الله سبحانه وتعالى وبلائهم في تقديره.
وهذا الأمر حينما غاب عن الناس حصل لهم من البلاء شيء كثير، ولكن كثيراً من الناس لا يفكرون ولا يتأملون، وكم نرى من أحوال الناس في مجتمعنا ممن أعطاهم الله سبحانه وتعالى مادة ومالاً لكن محقت منهم البركة، أو ابتلوا بأنواع الأسقام، أو ابتلوا بعقوق الأبناء، أو ابتلوا بصورة من الأبناء المتخلفين أو القاصرين في عقولهم، فتجد هذا الغني الثري يأتي لابنه بكل المدرسين ثم يرسب هذا الابن، فإذا ما نفعه مدرس أتى بمدرس آخر بدرجة أعلى في العلم، أو يأتي باثنين أو بثلاثة، ما فكر أن المسألة قد يكون مرجعها في الحقيقة إلى نوع تفريط في اكتسابه للمال من حرام أو نحو ذلك.
وهذا أيضاً إيجاز شديد مختصر للمدرسة المادية التي تركت أسباب السماء وتعلقت بأسباب الأرض تعلقاً كاملاً، فكانت كأنما تلغي مقام العبودية والذلة لله سبحانه وتعالى، وكل هذه المدارس التي فيها إغراق مادي هي نوع من الإجحاف بإشراق الروحانية.