أول هذه المجالات وآكدها: الإخلاص لله سبحانه وتعالى وتحرير النية والقصد ابتغاء رضوان الله جل وعلا.
قال الله سبحانه وتعالى: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر:14 - 15].
ويقول جل وعلا: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:2 - 3].
إذا صحح العبد إخلاصه لله، فهذا هو بداية تأثره واستفادته من كل ما سيأتي من أنواع الأعمال في تزكية القلوب والنفوس، وهذا الإخلاص ليس مجرد ادعاء، بل هو إخلاص من أعمق أعماق القلب، ومن أعمق أغوار النفس.
هو الإخلاص الذي يؤرق الإنسان ويجعله لا يبغي شيئاً في هذه الدنيا، ولا حتى حظ نفسه، ولا بعض ما يترتب على الطاعة من خير في هذه الدنيا، ولا شيئاً مما يفتح الله به عليه فيها، إنما يبغي فقط رضوان الله سبحانه وتعالى.
وتأمل معي موقفاً عظيماً في سيرة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لنرى أن الإخلاص ليس ادعاءً وإنما هو من أصدق المشاعر التي تملك على الإنسان كل جوارحه، وكل تصرفاته، ذلكم يتجلى في قصة البكّائين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، أخلصوا لله بقلوبهم، وأرادوا وجه الله بأعمالهم، لم يكن ذلك خاطراً عابراً ولا كلمة بلسان!! تحركوا وقد اشتعل حب الجهاد في قلوبهم، وقد امتلأت قلوبهم بقصد السعي لمرضاة الله سبحانه وتعالى، فطلبوا من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يحملهم للجهاد، فقال معتذراً: {لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ} [التوبة:92].
فماذا كانت الصورة؟! {تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} [التوبة:92]؛ لأنهم كانوا صادقين من أعماق قلوبهم، فحزنوا على فوات هذه الفرصة في الطاعة، وعلى فوات الأجر في بذل النفس لله سبحانه وتعالى، هذه هي حقيقة الإخلاص، حينما يتمكن من القلب، ولذلك فإن هذا الإخلاص له الأثر المباشر في حياة المؤمن وفي الأجر والفضل الذي يسوقه الله سبحانه وتعالى له.
ولذلك يقول الرسول عليه الصلاة والسلام كما في صحيح البخاري: (من طلب الشهادة بصدق بلّغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه).
يبلغ مراتب الشهداء، لكن ليس فقط بدون شيء، بهذا الإخلاص الذي هو متملّك للقلب، مستول على النفس.
في الحديث الصحيح عن الثلاثة النفر الذين آواهم المبيت إلى غار فسقطت الصخرة فسدّت عليهم باب الغار فقالوا: لا نجاة لكم إلا أن يدعو كلٌ منكم ربه بأخلص عمل قدمه لله سبحانه وتعالى، فلما دعوا انتقوا أخلص أعمالهم التي ما عملوها إلا ابتغاء وجه الله عز وجل، فلما ذكر الأول عمله وتوسل إلى الله به فرج الله عنهم قليلاً، ثم الثاني، ثم الثالث، ففرج الله عنهم ببركة الإخلاص لله سبحانه وتعالى.
فانعدام الإخلاص هو رأس كل بلاء يحل بالنفس والقلب، والشرك والرياء أعظم موجب لموجبات العذاب في الآخرة، كما ورد في الحديث الصحيح عن الثلاثة الذين هُم أول من تُسعّر بهم النار: قارئ للقرآن، ومجاهد، ومنفق متصدق، لكنهم لم يعملوا ذلك ابتغاء مرضاة الله، فَهُم أول من تُسعّر بهم النار، ولذلك يقول الله عز وجل في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري فهو للذي أشرك به، وأنا منه بريء).
قال الجنيد رحمه الله: (الإخلاص سرّ بين الله وبين العبد، لا يعلمه ملك فيكتبه، ولا شيطان فيفسده، ولا هوىً فيميله)، فهو من خفائه على هذه الصورة.
قيل لـ سهل التستري رحمة الله عليه: أي شيء أشد على النفس؟ -يعني: أي شيء أصعب عليها؟! هل هو العبادة؟! هل هو الإنفاق؟! هل هو الطاعة؟! - فقال: (الإخلاص -هو أشد شيء على النفس- لأنه ليس لها فيه نصيب!!) فالمخلص لا يريد شيئاً لنفسه -حتى لنفسه- لا يريد!! إنما يعمل لأجل الله سبحانه وتعالى وابتغاء رضوانه؛ ولذلك حينما تتأمل تجد أن الإخلاص هو المفتاح الذي يؤدي إلى ما بعده من الفضائل.
يقول ابن القيم: (أهل الإخلاص للمعبود والمتابعة هم أهل (إياك نعبد) حقيقة، فأعمالهم كلها لله، وأقوالهم لله، وعطاؤهم لله، ومنعهم لله، وحبهم لله، وبغضهم لله، فمعاملتهم ظاهراً وباطناً لله وحده لا يريدون من ذلك من الناس جزاءً ولا شكوراً، ولا ابتغاء الجاه عندهم، ولا طلب المحمدة والمنزلة في قلوبهم، ولا هرباً من ذمهم، بل قد عدّوا الناس بمنزلة أصحاب القبور) عدوا الناس من حولهم كأنهم موتى، لا يثنون عليهم بخير، ولا يذمونهم بمعصية، فمن تجرد هذا التجرد، تحقق له كمال الإخلاص.
فهل نحن لا نحتاج إلى مثل هذا التسليم؟! وهل يدعي أحد أنه قد عالج قلبه وجاهد نفسه؛ ليتحقق بمثل هذا الإخلاص الكامل التام غير المنقوص، الذي لا تشوبه شائبة، ولا تخالطه أية صورة من صور الصرف عن وجه الله سبحانه وتعالى؟! نظن أن أكثر الناس -إلا من رحم الله- لم يَصِل إلى مثل هذا الأمر، يقول ابن القيم: (جعلوا الناس بمنزلة أصحاب القبور، لا يملكون لهم ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، فالعمل لأجل الناس وابتغاء الجاه والمنزلة عندهم ورجائهم للضر والنفع لا يكون من عارف بهم ألبتة)، من أراد وجه الناس فهو لا يعرفهم؛ لأنهم لا يملكون له شيئاً، ولو كان يعرف ذلك لانصرف لله سبحانه وتعالى.
وآثار السابقين تدلنا على أهمية الإخلاص والنية، يقول هشام بن عبد الملك في وصف عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه: (ما أحسب عمر خطا خطوة قط، إلا وله فيها نية) أي: نية إخلاص وطاعة وقربة لله سبحانه وتعالى، خطوة من أي عمل مما قد يظنه الناس من أعمال الدنيا أو من أحوال ومصالح المعاش، فكيف ونحن قد نقبل على طاعات وعبادات مفروضة، ولا نستحضر أو نستخلص ونصفي وننقي هذه النية لله سبحانه وتعالى؟! ولذلك كان من أثر هذا النهج في عمر بن عبد العزيز أنه أصلح الله به أحوال الأمة كلها، في أحوال قلوبها، وفي أقوال ألسنتها، وفي مالها وخيرها ورخائها، وفي أمنها وأمانها، وفي فتحها ونصرها، وفي درء الشر عنها وكل ذلك في أقل من سنتين، مما لم يكن لمن كان قبله من بني أمية ولمن جاء بعده من بني أمية وبني العباس، فإنه لم يتحقق لهم مثلما تحقق على يديه في هذا الزمن اليسير، إنها بركة الإخلاص والنية لله سبحانه وتعالى.
وانظروا إلى الأثر العملي للإخلاص في التوفيق فيما ذكرناه عن عمر من الأثر العام في الإصلاح، يبينه لنا سليمان بن عبد الملك، فإنه لما أدركته الوفاة قال: (لأعقدن عقداً ما يكون للشيطان فيه نصيب)، وكان هذا العقد أن عَهِدَ بالخلافة لـ عمر فلم يُراعِ في ذلك أبناءه، ولا إخوانه، ولا الناس في ذلك الوقت، عند وفاته واحتضاره أراد أن يتقرب إلى الله بعمل خالص، وقال: (لأعقدن لله عقداً لا يكون للشيطان فيه نصيب)، فلما عقد هذا العقد بهذه النية وذلك الإخلاص أثمر ووُفّق في عقده، فـ عمر بن عبد العزيز ربما كان أعظم حسنات سليمان بن عبد الملك رحم الله الجميع؛ لأنه ساق للأمة هدية صلُح بها حالها.
ومن ثمار الإخلاص: التوفيق للصواب؛ ولذلك قال الكيلاني رحمة الله عليه: (كن صحيحاً في السر تكون فصيحاً في العلانية)، لا يوفق ولا يُسدّد ولا يُصوّب إلا من كان على درجة من الإخلاص عظيمة.
وقال مكحول: (ما أخلص عبدٌ قط أربعين يوماً إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه).
وهنا مسألة ذكرها القاضي عياض رحمه الله، وهي: قد يقول قائل: سأُخلِصُ أربعين يوماً حتى تأتيني الحكمة! فهُنا بَطُلَ الإخلاص؛ لأنه لم يُخلص لله، بل أخلص لنيل الحكمة!! وهذا مما ذكره العلماء من شدة خفاء الإخلاص ودقته، فمن بركات التزكية وثمارها -كما سيأتي-: أن الله سبحانه وتعالى يمن على الإنسان بالرؤيا الصالحة، وبالخير الذي يساق إليه، فإذا قصد مثل هذه الأمور فقد انصرف عن كمال الإخلاص لله سبحانه وتعالى.
ولذلك يقول التابعي الجليل مطرف بن عبد الله بن الشخير: (بل هو -أي: الإخلاص- مفتاح كل خير وصلاح، وهو أول الأمر وآخره) ويقول: صلاح العمل بصلاح القلب، وصلاح القلب بصلاح النية، ومن صَفَى صُفّي له، ومن خَلَط خُلِط عليه).
إذاً: الأمر كله مداره على الإخلاص، ولذلك فإن ما نعانيه من غفلة أو من عدم حصول لذة في الطاعة إنما هو من هذا التخليط، (من صَفَى صُفّي له، ومن خَلَط خُلِط عليه) وهذا جماع الأمر، ومن جميل كلام الرافعي رحمة الله عليه -وهو كلام أدبي لكنه يدلُّ على فهم وإدراك طبيعة النفس-: (إن الخطأ الأكبر أن تُنظّم الحياة من حولك، وتترك الفوضى في قلبك!!).
فتنظم مواعيدك، وتنظم عملك الدنيوي، وتنظم عمل دراستك، وتترك الفوضى في قلبك مشتتاً موزعاً في أودية الدنيا، ليس موجهاً لله سبحانه وتعالى!! فإن هذا تعارض وتناقض ينبغي أن ينأى الإنسان بنفسه عنه.
قال ابن القيم عن حقيقة الإخلاص: (فيه تصفية العمل من رؤيته وملاحظته، وطلب العِوَض والرّضا به، والسكون إليه)، فالإنسان ينبغي له أن يُخلّص قلبه من (رؤية العمل)، يعني: أن يرى أنه عمل وأنه قدّم، وهذا ينبغي أن يكون أيضاً موضع عناية واهتمام؛ لأن الإنسان ينبغي له ألا ينظر إلى عمله، وأن له فيه فضلاً، أو أنه مُمتنّ به على الله عز وجل -عياذاً بالله- كلا! ولكن إلى ماذا ينظر؟ ينظر إلى أن هذا هو توفيق الله سبحانه وتعالى، وإلا فالنفس كُلّها أمراض، وأدواء، وشهوات، فمن الذي أعانه على نفسه حتى أخلص لله؟! ومن الذي وفقه للعمل؟! هو الله سبحانه وتعالى.
قال الله عز وجل مُمتناً على رسوله: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا}