الرضا عن النفس أساس أمراض القلوب

قال ابن القيم رحمة الله عليه كلاماً يبين لنا سبباً رئيسياً هو سبب كل بلية تأتي للنفس، ويقع فيها الإنسان، وذلك هو: رضا الإنسان عن نفسه، فمتى رضي الإنسان عن نفسه عن عبادته عن ذكره عن طاعته، فهذا هو أُسُّ الأمراض وأساس البلاء، يقول رحمة الله عليه: (رضا العبد بطاعته دليل على حسن ظنه بنفسه، وجهله بحقوق العبودية، وعدم عمله بما يستحق الرب جل جلاله).

ويبين هذا أكثر فيقول: (وحاصل ذلك: أن جهله بنفسه وصفاتها وآفاتها وعيوب عمله وجهله بربه وحقوقه وما ينبغي أن يعامل به يتولد منهما: رضاه بطاعته وإحسان ظنه بها).

من أنت -أيها الإنسان- وماذا عملت حتى ترضى عن عملك وطاعتك؟! وهل تدرك عظمة حق الله عليك؟! لو أدركت ذلك لرأيت أنك ما أتيت لا بالعشر ولا بمعشار العشر مما ينبغي أن يكون عليه حال العبد المؤمن استفراغاً للقيام بحق العبودية لله سبحانه وتعالى.

ولذلك قال بعض السلف رحمة الله عليهم كلمة جامعة هي أصل في هذا الشأن: (أصل كل غفلة ومعصية وشهوة الرضا عن النفس).

نحن كل ما نريد أن نتقيه هو الغفلة والمعصية والشهوة، وأصل هذه جميعها: (الرضا عن النفس)؛ لأن الذي يرضى عن نفسه كيف سيزيد في التذلل لله؟! وما الذي سيدفعه لمزيد من الطاعات لله؟! وما الذي سيدفعه للاستغفار من ذنبه؟! ولذلك فإن من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنك تستغفر في أعقاب الطاعات، وبعضنا إذا قلت له: استغفر الله وتب إلى الله، قال: الحمد لله أنا على خير!! بسبب جهله بنفسه، وجهله بحق ربه؛ يظن أنه لا يحتاج للاستغفار؟! رسولنا صلى الله عليه وسلم كان يستغفر الله في اليوم والليلة أكثر من سبعين مرة، وفي رواية: مائة مرة -مع أنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر- لكن ليعلمنا أن هذا الاستغفار دليل النقص في الإنسان، فينبغي أن تدرك -دائماً- أنك في نقص، وأنك مقصر، إما في الإتيان بالأعمال، وإما في كمالها، وإما في عدم حصول قبولها، وهذا أمر ينبغي أن يفطن له الإنسان المؤمن.

ولذلك ما إن تُسلّم من صلاتك حتى تقول: استغفر الله!! تستغفر الله من أي شيء؟! تستغفر لأنك لم تأت بالعبادة على كمالها لم تستحضر الخشوع التام لم تتذلل التذلل الكامل مع الندم لم تتذوق حلاوة الطاعة ربما غفلت ربما ما استحضرت عظمة الله كما يجب وكل إنسان يتعرض لمثل هذا، قليلاً كان ذلك أو كثيراً، وهذا هو (الفقه) حينما يستغفر الله، حتى قال بعضهم: (استغفارنا يحتاج إلى استغفار، وحمدنا يحتاج إلى حمد!!) وهذا من فقههم لهذه المعاني، فأنت تستغفر بلسانك، وقلبك لاه غافل، فهذا نوع غفلة تحتاج منك إلى استغفار، وحمدك لله عز وجل إنما هو محض توفيق من الله عز وجل أن ذكّرك وألهمك أن تذكره وأن تحمده!! فهذا يحتاج إلى حمد، ولابد أن يكون الإنسان -دائماً- منتبهاً لمثل هذا.

وليعلم أن هذه التزكية هي اللذة التي ذكرها السلف رضوان الله عليهم لما قال قائلهم: (والله! لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من السعادة لجالدونا عليها بالسيوف).

فما أجمل أن ينشرح الصدر، وأن يطمئن القلب، وأن تسكن النفس، وأن تجد لذة الطاعة والمناجاة، ولذلك فإن سجود المحراب، واستغفار الأسحار، ودموع المناجاة؛ سيماء يحتكرها المؤمن، ولئن توهّم أصحاب الدنيا جنّاتهم في الدنيا والنساء والقصور المنيفة، فإن جنة المؤمن في محرابه!! هذه هي اللذة التي كان يجدها الصالحون المخلصون لله عز وجل؛ فتشغلهم عن كل بهرج في هذه الدنيا، وعن كل جاه يصرف الناس إلى أحوال من الدنيا كان ينبغي ألا ينصرفوا إليها، ولذلك متى وجد الإنسان لهذه التزكية فقهها الصحيح، فإنه يتشبث بها ولاشك، ولا يجنح عنها ولا يحيد.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015