هذا إدراك للواقع الذي كثرت فيه الفتن التي تغزو القلوب، والشهوات التي تفسد النفوس، أصبحت الدنيا تجذب الناس وتخطف أبصارهم وبصائرهم إليها، فنحن في عصر مهما كان للإنسان فيه من الخير فلابد أن يعترضه من الشر ومن سهام الفتن ما لا يكاد يحتمل، فلذلك كان لابد لنا من أسلحة مضادة، كما أن هناك في الحرب أسلحة مضادة للطائرات، فهناك أيضاً أسلحة مضادة للشهوات وللشبهات لابد أن تكون عند الإنسان، فإذا كان الإنسان يتوقع مثلاً أن عدوه لا يملك إلا رصاصة واحدة، فإن احتياطه سيكون محدوداً، ودفاعه يسيراً؛ لأنه يعلم أن العدو يملك سلاحاً ضعيفاً وذخيرة قليلة؛ فبمجرد أن تنتهي هذه الذخيرة فهو في مأمن، أما إذا علم الإنسان أن عدوه أكثر قوة فإنه سيستعد له بما يكفي لردعه وردّ كيده عنه.
فإذا علم المسلم أن الدنيا تصب عليه فتنها وشهواتها ليلاً ونهاراً، سماعاً ورؤيةً، وقراءةً واطلاعاً، بهذا الكم العجيب من هذه الرزايا والبلايا، فإنه لابد أن يعرف أنه في حاجة إلى جهد أكبر.
وإذا كنا نسمع من أهل الصلاح وأهل الإيمان من السلف الصالحين حرصهم على الطاعات وعلى تزكية النفوس، رغم أنهم لم يكونوا يجدون من هذه الفتن والشهوات مثلما نجد؛ وجب علينا -حينئذ- أن ندرك أننا في حاجة أكثر لتزكية النفوس.
ولذلك فقه الدعاة المخلصون هذا الأمر، فحرّضوا طلبة العلم، ومن دخل تحت مسمى الالتزام بالدين وشباب الدعوة اليوم؛ أن يكون حرصُهم على تزكية النفوس أبلغ، وربما أكثر من حرص السابقين؛ لأن السابقين لم يكونوا يجدون مثل ما نجد من الفتن؛ ولذلك يقول الراشد جزاه الله خيراً: (والمؤمن في هذا الزمان أشد حاجة للانتباه ومعالجة قلبه وتفتيشه مما كان عليه المسلمون في العصور الماضية)، لماذا أشد حاجة؟ لأنهم كانوا يعيشون في محيط إسلامي تسوده الفضائل، ويسوده التواصي بالحق، وكان أهل المعاصي والفسق يُجهدون أنفسهم في التستر والتواري عن أعين العلماء، وسيوف الأمراء، أما الآن فإن المدنيّة الحديثة جعلت الكفر بجميع مذاهبه مسموعاً مرئياً بواسطة الإذاعات والتلفزة والصحف والمجلات، وجعلت إلقاءات شياطين الإنس والجن قريبة من القلوب، وبذلك زاد احتمال تأثر المسلم من حيث لا يريد ولا يشعر بهذا المسموع والمنظور، فضلاً عن ابتعاد كثير من الدول والشعوب الإسلامية عن تحكيم شرع الله، فوجب على المسلم من المجاهدة والمراقبة -لوقته وقلبه- أكثر مما كان يجب على السلف.
وهذا دليل فقه وفهم لاحتياج الواقع، ولذلك قال النورسي رحمة الله عليه: (إن هذه المدنيّة السفيهة المصُيّرة للأرض كبلدة واحدة، يتعارف أهلها ويتناجون بالإثم وما لا يعني بالجرائد صباح مساء؛ غَلُظَ بسببها وتكاثف بملاهيها حجابُ الغفلة بحيث لا يخرق إلا بصرف همة عظيمة) أي: بسبب هذه الفتن وقربها والتصاقها بالناس، بحيث يسمعونها ويرونها، فغلظ بسببها وتكاثف بملاهيها حجابُ الغفلة، بحيث لا يخرق ولا ينقشع هذا الحجاب إلا بصرف همة عظيمة، ولذلك اخترنا هذا الموضوع المهم.