بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
وبعد: فنحمد الله أن يسر لنا هذا اللقاء، ونواصل ما كنا بدأناه من الدروس العلمية -العامة- وهذا هو الدرس التاسع عشر، وهو بعنوان: (فقه تزكية النفوس).
وهذا الموضوع ربما كان مناسباً في مثل هذا الوقت الذي لم يطل فيه البعد عن شهر رمضان المبارك، الذي كان -ولا يزال- موسماً عظيماً من مواسم العظة والتذكرة والإيمان، فيه تحيا القلوب، وتطمئن النفوس، وتنشرح الصدور، ولابد لنا -ولكل مؤمن- أن يسعى إلى هذا الخير العظيم، وهو: تزكية النفس، وتطهير القلب.
مرادنا بالفقه هنا معناه العام: الفهم والإدراك، وليس مرادنا الخاص المتعلق باستنباط الأحكام الفقهية من أدلتها التفصيلية، وإنما المراد: الفهم الذي يشمل المعاني المعنوية، وكذلك الأحكام العملية، كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] أي: لا تفهمونه ولا تعقلونه، وقال النبي عليه الصلاة والسلام -كما في الصحيح-: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) لم يقل: يعلمه الدين، وإنما قال: (يفقهه) لأن الفقه أعمق من العلم، إذ إن العلم هو أخذ الأمور حفظاً وإدراكاً، ويزيد الفقه على ذلك: بمعرفة ما يتصل بهذا من المعاني الإيمانية والقلبية وإدراكها ضمن تصور عام يبين منزلتها وموقعها.
ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا) أي: إذا أخذوا الفقه والفهم في هذا الدين، والمشكلة الكبرى التي تعترض المسلم اليوم هي: النأي والبعد عن الفقه، إما جهلاً به، أو جنوحاً ومخالفة له، وهذا الفقه الذي نعنيه هو: (الفهم)، فقد يجنح بعض الناس في فهمه لمسألة من مسائل الدين فلا يقع على الخير والبصيرة أو قد يغفل عنها فيفوته خير كثير.
ولذلك فإن الآيات القرآنية تبين أن المشكلة الكبرى إنما هي عدم الفقه، كما قال سبحانه وتعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179].
فالمراد أن نفهم هذه التزكية للنفوس، وكيف تكون وأهميتها وآثارها وما يلحق بذلك.
فهذا هو فقه التزكية، ويأتي -إن شاء الله تعالى- فقه الدعاء، وفقه السجود، وفقه السؤال والجواب، وفقه الهجر والعتاب، وربما موضوعات أخرى يكون فهمها وإدراك معانيها الظاهرة والباطنة فيه خير كثير، وربما كان هناك بعد أو غفلة عن فهم مثل هذه الأمور، فنشرع فيما يتصل بتزكية النفوس.