إن فضل الله عز وجل عندما يسوقه إلينا ورحمته عندما يفتح أبوابها ويشرعها بين أيدينا فإن ذلك فضل من الله عظيم يوجب التذلل له، والتضرع إليه، والإنابة إليه، والانكسار بين يديه، والإقرار بفضله، والشكر لنعمه، والاستحضار لعظمته، والتأمل والتدبر فيما ساقه الله جل وعلا لأهل الإيمان والإسلام، وذلك كله من الأمور العظيمة التي نشعر بها في كل موسم من مواسم الفضل والأجر؛ إذ نتذكر فنفيء إلى الله، ونبكي على ما سلف وما مضى من التقصير والتفريط، ونندم على ما ارتكبنا من المحرمات، وما اقترفنا من السيئات، ونشعر بتفريطنا وتقصيرنا ونتذكر واجبنا تجاه خالقنا سبحانه وتعالى.
ولعل هذا المعلم المهم ينبغي أن يكون حياً في القلوب في كل وقت؛ لأن فضائل الله جل وعلا وإن كانت في هذه المواسم العظيمة في العام كله فإن فضائله في كل يوم وليلة وفي كل لحظة، أليست فضائل الصلوات الخمس -مما هو معلوم ومعروف- تطهر وتكفر الذنوب مرة بعد مرة؟ أليس الله عز وجل ينزل كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم إذا بقي الثلث الأخير من الليل فينادي عباده: (هل من تائب فأتوب عليه، هل من مستغفر فأغفر له، هل من سائل فأعطيه.
وذلك الدهر كله)، أليست هذه الفضائل متجددة في كل وقت وآن؟ أليس حرياً بنا أن نرفع أكف الضراعة في كل وقت، وأن نسكب دموع الندامة في كل ليل، وأن نلهج بذكر الله عز وجل وشكره والإقرار بفضله ونعمته في كل لحظة وآن؟ ألسنا نستيقظ في كل صباح فنقول: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا؟ ألسنا ننغمس في نعم الله، ونغرق في فضله في كل لحظة وسكنة، في كل كلمة لسان نستطيع نطقها، وكل نفس تمتد به حياتنا وتسير به أيامنا، وكل خطوة نمضي بها إلى مصالحنا، وكل رزق يفيضه الله علينا لنتدبر أمورنا، ولنكسب معاشنا؟ أليس ذلك كله مما ينبغي أن تستغل فيه هذه المواسم العظيمة لنخرج بالفوائد المستمرة الممتدة الطويلة التي لا تكون عابرة، ثم نعود من بعد الذكر إلى الغفلة، ومن بعد التذلل إلى التكبر، ومن بعد الإنابة إلى الإعراض؟ ينبغي لنا أن نحول هذه المواسم إلى تغييرات حقيقية في واقع حياتنا؛ لأن الله جل وعلا إنما ساقها إلينا لأجل أن تقومنا مرة بعد مرة، ولأن تصبح بعد ذلك مدداً وعوناً على طاعة الله مستمراً وتذكيراً وتوجيهاً دائماً، وتقويماً وتهذيباً لكل خطأ يقع من الإنسان، فما أحرانا أن نستحضر معنى التذلل لله والالتجاء إليه، كما نتذكر ذلك في المشهد العظيم في يوم عرفات، يوم يجتمع الحشد الهائل والجموع الغفيرة على ذلك الصعيد، كلهم متذللون منكسرون خاضعون باكون راجون خائفون طامعون في رحمة الله، ومستعيذون من غضب الله ومن سخط الله.