وأول هذه الوقفات: فضائل ووصايا.
ومعلوم أن الحق سبحانه وتعالى رغب عباده في الفرائض والشعائر والواجبات والتكليفات بالأجر والفضل والمثوبة؛ لأن النفس بطبيعتها تحتاج إلى الترغيب لترتبط بالخير، وإلى الترهيب لتنفر من الشر.
والفضائل في هذا الركن من أركان الإسلام كثيرة جداً، ونعرج فيها على سائر ما في الحج من المناسك والشعائر، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (استمتعوا من هذا البيت، فإنه قد هدم مرتين ويرفع في الثالثة) وهذا تهييج وتشجيع على زيارة البيت وقصده للعمرة وللحج، وأيضاً حث النبي عليه الصلاة والسلام على فريضة الحج لما فيها من الأجر والفضل بقوله صلى الله عليه وسلم: (عجلوا الخروج إلى مكة، فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له من مرض أو حاجة).
وأيضاً في حديث قدسي آخر يقول فيه الرسول عليه الصلاة والسلام عن رب العزة والجلال: (إن عبداً صححت له جسمه، ووسعت عليه في معيشته تمضي عليه خمسة أعوام لا يفد علي لمحروم) أي أنه يحرم نفسه الأجر والمثوبة، كما يحرم نفسه الفائدة والمنفعة الإيمانية الروحية التي تعود عليه من هذه الفريضة العظيمة، وقد ثبت أن الحج من أفضل الأعمال؛ وذلك لقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (أفضل الأعمال الإيمان بالله وحده، ثم الجهاد، ثم حجة مبرورة، وتفضل سائر الأعمال كما بين مطلع الشمس إلى مغربها) وقد وصف النبي عليه الصلاة والسلام الحج بأنه جهاد، ومعلوم أن الجهاد عظيم في دين الله سبحانه وتعالى، وأنه من أعظم الأعمال مثوبة؛ إذ فيه بذل النفس والروح مع المال لله سبحانه وتعالى.
ولما شابه الحج الجهاد في بعض معانيه -إذ هو بذل للجهد وراحة البدن، كما أنه بذل للمال والنفقة، كما أنه سعي في الطاعة والاستجابة رغم المشقة والكراهة التي ربما تكون في نفس الإنسان- قال النبي عليه الصلاة والسلام مخاطباً بعض أصحابه: (ألا أدلك على جهاد لا شوكة فيه؟ ثم قال عليه الصلاة والسلام: حج البيت).
أي: الحج هو الجهاد الذي لا شوكة فيه.
وقال في حديث آخر: (الجهاد حج كل ضعيف).
ووصف الحج بأنه أحسن الجهاد حينما قال عليه الصلاة والسلام: (لكن أحسن الجهاد وأجمله حج مبرور) وقال أيضاً: (نعم الجهاد الحج).
ثم أعظم فضيلة في هذا الحج غفران الذنوب، كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: (تابعوا بين الحج والعمرة، فإن متابعة بينهما تنفي الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد).
وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه).
ومن فضائل الحج أن الحاج ضيف على الله سبحانه وتعالى، وحق على الضيف أن يكرمه مضيفه، والله سبحانه تعالى أعظم وأكرم وأجود من يمنح ضيوفه ووفده، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الحجاج والعمار وفد الله، دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم).
وذلك أن الحاج والغازي في سبيل الله سبحانه وتعالى حق على الله سبحانه وتعالى أن يعطيه سؤاله وينجز له وعده.
وأيضاً من الفضائل في الحج المسير إلى الحج، ذكر النبي عليه الصلاة والسلام فضيلته وأجره ومثوبته بقوله: (ما ترفع إبل الحاج رجلاً ولا تضع يداً إلا كتب الله له بها حسنة، ومحا عنه سيئة، أو رفعه بها درجة).
وبعض مناسك الحج ورد التفضيل لها على وجه الخصوص، فالوقوف في يوم عرفة ورد فيه حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينزل إلى السماء الدنيا فيباهي بأهل الموقف الملائكة، ويقول: هؤلاء عبادي جاءوني شعثاً من كل فج عميق، يرجون رحمتي ويخافون عذابي ولم يروني، فكيف لو رأوني؟! فلو كان عليك مثل رمل عالج أو مثل أيام الدنيا أو مثل قطر السماء ذنوباً غسلها الله عنك) كما ورد بهذا الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام.
وفي حديث عائشة: (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة).
والرمي وردت له فضيلة، كما جاء في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (وأما رميك الجمار فإنه مدخور لك) أي: مدخور لك أجره وثوابه عند الله سبحانه وتعالى.
كذلك الحلق، فحينما يحلق الحاج شعره متبذلاً ومتجرداً من الزينة لله سبحانه وتعالى فله فضيلة وأجر أخبر بها المصطفى عليه الصلاة والسلام بقوله: (وأما حلقك رأسك فإن لك بكل شعرة تسقط حسنة).
أما التلبية فقال فيها عليه الصلاة والسلام: (ما أهل مهل قط، ولا كبر مكبر قط إلا بشر بالجنة).
والطواف قال فيه صلى الله عليه وسلم: (من طاف بالبيت سبعاً وصلى ركعتين كان كعتق رقبة).
والأحاديث -أيضاً- أكثر من ذلك وأوسع، وهذه الأحاديث كلها من صحيح الجامع الصغير، أي أن الشيخ الألباني قد صححها، وهي بروايات مختلفة، فبعضها مختلف في ألفاظه عن البعض الآخر، والذي يتأمل يرى أن الحج ربما يكون من أعظم أو أكثر الفرائض ذكراً للمثوبة والأجر، وذلك لكون الحج فريضة في العمر مرة واحدة، وقد لا يدركه كثير من الناس إلا هذه المرة، بينما الصلاة كل يوم، والزكاة في كل عام، لكن الحج واجب في العمر مرة واحدة، وغالباً ما يقع للناس إلا مرة واحدة فقط، فلذا كان الأجر المذكور فيه عظيماً بصورة يظهر فيها أهميته، وفي نفس الوقت أثره وفائدته، ففيه غفران الذنوب، وفيه عود المرء كيوم ولدته أمه، وفيه مشابهته بالجهاد، وفيه من المعاني التي ذكرنا شيء كثير؛ إذ فيه كثير مما يتفرق في عبادات أخرى من الشعائر، سواء كانت فرائضاً أو سنناً.