لنتأمل هذه الومضات الإيمانية القرآنية التي تبين الافتراق بين المؤمنين الصادقين وبين المنافقين الزائغين والكافرين المعتدين الظالمين، والتي تبين كيف تمحص الفتن الناس، وكيف تظهر مكنونات ما في قلوبهم، وتخرج دخائل نفوسهم، وتظهر خواطر عقولهم، وتكشف ذلك في فلتات ألسنتهم، وفي كثير من أحوالهم وأفعالهم.
قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10]، بمجرد الابتلاء اليسير والمحنة العارضة نجد من ينسلخ من دينه ويتجرد من إيمانه، ويمسخ حتى من فطرته وخلقه، لأي شيء؟ لأجل عذاب دنيوي، أو لأجل رهبة بشرية، وينسى عذاب الآخرة، وينسى قوة الله رب الأرباب وملك الملوك وجبار السماوات والأرض، ينسى أن أمر الله جل وعلا بين الكاف والنون، وأن كل قوى الأرض لا يمكن أن يكون لها أثر ولا ذكر ولا خبر إذا أراد الله سبحانه وتعالى إفناءها، وإذا أراد الله عز وجل ردها في نحور أربابها، وإذا أراد الله عز وجل أن تكون شقوة لمن يأخذون بها ويؤذون بها ويعتدون بها.
وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ} [الحج:11].
أليس هذا حالاً نراه؟ أليست هذه صورة ينبغي أن تمتلئ قلوبنا رهبة وخوفاً من أن نكون من أربابها أو أن نكون من أصحابها؟ إنها الفتن التي تقلب القلوب، وتعبث بالآراء، فإن لم تكن لنا عصمة من الله فسنضيع مع الضائعين، ونزيغ مع الزائغين، ونهلك مع الهالكين.
نسأل الله عز وجل أن يعصمنا، ونسأله سبحانه وتعالى أن ينجينا، وأن يجعلنا أوثق بما عنده مما في أيدينا.
إننا إذا تأملنا وجدنا حالاً تصوره الآيات يشبه حالنا اليوم وقد تكالب علينا الأعداء، وقد اختلفت آراء الأولياء والأحباء، بل تضاربت مصالحهم، بل وقد تهيأت أسباب ظهور صراعهم وعدائهم، وصارت جلية واضحة.
أي شيء في كتاب الله يصور لنا ذلك؟ قول الله تعالى: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:141]، سبحان الله! كأن الآيات تنطق بألسنة كثير ممن يقع منهم ذلك في هذا اليوم {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء:141].
قاعدة مطردة، نفي مؤبد، هذا كلام رب العالمين (لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً) أين هم؟ إن وجدوا فلن يكون للكافرين عليهم سبيل، قد تكون جولة، ولكن الدولة تعود إلى أهل الحق إلى قيام الساعة.
ولكن كثيراً من الناس لا يوقنون، وعند الشدة لا يثبتون، وذلك هو أثر الفتنة التي يقضيها الله عز وجل، فإن ثبت الثابت واعتصم بالله عز وجل فيوشك عما قريب أن تنكشف الغمة، وأن تفرج هذه الملمة، وأن يكون للناس من ورائها خيرٌ عظيم وفرج كبير ونصر عظيم، ولكن كثيراً من الناس لا يوقنون، ولكن كثيراً من الناس لا يصبرون ولا يثبتون، نسأل الله عز وجل أن لا يجعلنا من أولئك، وعندما نتلو هذه الآيات نجد ما بعدها مباشرة: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142].