وهذه بعض الثلاثيات في شأن العلاقات والأخوة بين الناس، قال ميمون بن ميمون: أول المروءة: طلاقة الوجه، والثاني: التودد، والثالث: قضاء الحوائج.
قال بعض الحكماء: الإخوان ثلاث طبقات، وتأملوا هذه الكلمة فإنها جميلة، قال: طبقة كالغذاء لا يستغنى عنها، وطبقة كالدواء لا يحتاج إليها إلا أحياناً، وطبقة كالداء لا يحتاج إليها أبداً.
وأيضاً عن مجاهد أنه قال: ثلاث يصفين لك ود أخيك: أن تبدأه بالسلام إذا لقيته، وتوسع له في المجلس، وتدعوه بأحب أسمائه إليه، وثلاث من العي -أي: الجهل-: أن تعيب على الناس، وأن ترى من الناس ما يخفى عليك من نفسك، وأن تؤذي جليسك فيما لا يعنيك.
فهذه كلها في شأن علاقات الإخوان فيما بينهم.
إذاً: من المروءة كما قال ميمون هنا: طلاقة الوجه، ثم التودد، ثم قضاء الحوائج، وطلاقة الوجه نعلم أن النبي عليه الصلاة والسلام قال عنه: (تبسمك في وجه أخيك صدقة) وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى بعض أصحابه تتهلل أسارير وجهه فرحاً، فهذا كأنه العنوان، إذا أطلقت وجهك بالسماحة والرضا والابتسامة، فكأنك تشجع هذا على أن يقبل عليك أو يسألك أو يسلم عليك، لكن إذا قدمت عليه ورأى جبينك مقطباً، ونظرك إليه شزراً وكأنه قد دهمك من الهم والغم لرؤيته شيء كثير، فلا شك أنه ستنقبض نفسه منك، ولا يكون بعد ذلك سلام ولا كلام، ولو صار كلاماً فإنه لا قيمة له، بل مجاملة باردة جافة ليس فيها صدق المودة، ولا حقيقة الأخوة والتودد والتلطف بالكلام الطيب، بالإحسان، بالإكرام، بالتقديم والإجلال، فإن هذا من الأمور التي يحسن من الناس مراعاتها.
وبعض الملتزمين أحياناً يرى أن الشدة أمر مطلوب، فإذا تكلم لا يتكلم إلا جزلاً، وإذا صافح لا يصافح إلا بشدة، وإذا عامل لا يعامل إلا بنوع من الاحتراز والتحفظ الشديد، وهذه يبوسة ليست مطلوبة، وجفاف غير مرغوب فيه، لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم هيناً ليناً سمحاً بشوشاً ودوداً، وهكذا ينبغي أن يكون المسلم، يقول عز وجل: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54].
أخي! إذا لقيت بعض المقصرين فلن له، فلعل لينك يكون سبباً إلى وداده لك وتقديره لك، ومما يجعله يستمع لدعوتك ونصحك.
وبعد ذلك تأتي الظواهر من قضاء الحوائج، فإذا أصابت أخاك المسلم مصيبة، أو احتاج إلى مساعدة، فتقضي له حاجته، وهذه الأمور لها فضائل وأجور عظيمة، ففي حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه).
وقد طبق النبي عليه الصلاة والسلام هذا في مواقف كثيرة، ومنها حينما جاءه قوم من مضر وقدموا عليه عليه الصلاة والسلام فحث الناس على الإنفاق، ولا نريد أن نطيل في هذا الحديث.
وأما طبقات الإخوان: فنوع كالغذاء لا يستغنى عنه، فأنت كل يوم تحتاج إلى الطعام والشراب، فكذلك أنت تحتاج إلى الإخوان الذين يذكرونك بالله، ويسرون عنك إذا أصابك هم وغم، ويكونون معك على ما يحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء كالغذاء لا يمكن أن تستغني عنهم، لا بد أن يكون لك من أصحابك وخلانك أهل صدق وأهل إيمان وأهل دعوة، إذا نسيت ذكروك، وإذا ذكرت أعانوك، ويكون أحدهم بالنسبة لك كالمرآة كما قال عليه الصلاة والسلام، ترى فيه قصور نفسك، وترى فيه خلل كلامك، وترى فيه قصور تصرفاتك، ولا يكون منك ومنه إلا كما قال عليه الصلاة والسلام: (المسلم للمسلم كاليدين تغسل إحداهما الأخرى) فمثل هذا الأخ زينة في الرخاء وعدة في البلاء، إذا لقيته فعض عليه بالنواجذ.
الثاني: كالدواء تحتاج إليه في وقت معين، وهذا ممن قد تستفيد منه لكن لا تتمكن من مخالطته ودوام صحبته، فمثلاً العلماء لا يكون من السهل دائماً أن تكون مخالطاً لهم، لكن العالم تحتاجه، فإذا عن لك سؤال فقهي أو مسألة ذهبت إليه فسألته، أو إذا احتجت من شخص معين إلى حاجة هو فيها مختص وهو بها عالم فإنك تذهب إليه وهكذا.
الصنف الثالث: كالداء، أي: المرض، لابد أن تأخذ تطعيماً عند المرض؛ لأن الاحتراز من المرض أمر مطلوب، كذلك الحجر الصحي، ومنع الاختلاط، وعدم استخدام الأدوات حتى لا تنتقل العدوى، فهؤلاء الذين عندهم القيل والقال، وغيبة الناس وذمهم، وإيغار الصدور، وتأجيج نيران الحقد بين الناس، والسعي بين الناس بالنميمة.
أو صنف آخر: وهم الذين لا تسمع منهم خيراً، ولا تسمع منهم إلا التهييج على الشهوات والمحرمات، والترغيب في ارتكاب المعاصي والمنكرات، فهؤلاء داء ومرض، إذا اقتربت منهم لا تسلم أن تصيبك عدوى، فتقع فيما هم واقعون فيه.
كذلك من صفاء الود البدء بالسلام، والتوسيع في المجلس، والدعاء للإخوة بأحب الأسماء إليهم.
أما العي فهو نوع من الداء الذي ذكرناه: أن تعيب على الناس، وأن ترى من الناس ما يخفى عليك من نفسك، وأن تؤذي جليسك فيما لا يعنيك، وهذه جملة وافرة في هذا المعنى، والأقوال فيها أيضاً كثيرة.