أما في سنة النبي صلى الله عليه وسلم فالأحاديث في هذا الشأن أيضاً كثيرة، نذكر بعضاً منها مما يحصل التنبيه عليه والتذكير به، فهذا حديث أبي هريرة يرويه البيهقي في شعب الإيمان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاث دعوات مستجابات: دعوة الصائم، ودعوة المظلوم، ودعوة المسافر).
وفي رواية عند البزار من حديث أبي هريرة أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاثة حق على الله ألا يرد لهم دعوة: الصائم حتى يفطر، والمظلوم حتى ينتصر، والمسافر حتى يرجع).
قال الهيثمي عن بعض رجاله: لا أعرفه، وبقية رجاله ثقات.
هذا الحديث يخبرنا عن القطع بإجابة دعوة ثلاثة أصناف من الناس متلبسين بثلاثة أحوال، والغرض الذي نريد التنبيه عليه هو: لم جعل هذا الوعد والقطع بإجابة الدعاء لأولئك النفر الثلاثة أو الأنواع الثلاثة: الصائم حتى يفطر، والمظلوم حتى ينتصر، والمسافر حتى يرجع؟! لو سألنا سؤالاً: ما هو الأمر المشترك بين هؤلاء الثلاثة، الذي هو سر وعد الله عز وجل بإجابة الدعاء؟ نقول: السر في هذا هو كمال التجرد لله سبحانه وتعالى، والانقطاع عن الأسباب والخلق؛ لأن الله سبحانه وتعالى واحد فرد صمد، ويحب وحدانيته من عباده، ويحب إخلاص العبد له في عبوديته، وكلما كان القلب أكثر انقطاعاً عن الدنيا وعن الناس وعن الأسباب، وأكثر وثوقاً وتعلقاً بالله سبحانه وتعالى، وأعظم تجرداً له جل وعلا، كان ذلك دليلاً على عظمة الإيمان وصدق التوكل وكمال الثقة بالله عز وجل وشدة الافتقار له سبحانه وتعالى.
والعبودية إنما هي بمزيد التذلل والخضوع والانكسار والافتقار، والبراءة من الحول والطول، والاستناد إلى حول الله وقوته.
وهذا ابن القيم في فوائده يبين أن كل وجه من وجوه النقص في الإنسان يقابله وجه من وجوه الكمال، فكلما شعر المرء بنقص فيه، طلب ما عند الله سبحانه وتعالى بما له من صفات الكمال حيث يقول: ركبت من العجز لتنظر إلى عظيم قدرة الله سبحانه وتعالى، وركبت من الفقر لتنظر إلى عظيم غنى الله سبحانه وتعالى، وركبت من الضعف لتنظر إلى عظيم قوة الله سبحانه وتعالى.
وهكذا كل ضعف فيك فهو مقابل للكمال المطلق عند الله سبحانه وتعالى، وهنا الصائم أساس عبادته كما نعلم لله؛ وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: (كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به).
فهو مخلص لله عز وجل حيث تجرد وتنزه عن شهوته وعن طعامه وشرابه إخلاصاً لله عز وجل، ومحص النية له سبحانه وتعالى، وعلق الأسباب به، وترك حاجة فرجه وحاجة بطنه وحاجة أنسه وراحته لله جل وعلا، وتعلق به أوثق تعلق.
والمظلوم لو كان بيده أن ينتصر من ظالمه لفعل، لكنه غالباً ما يكون مغلوباً على أمره عاجزاً أن يرد هذا الظلم ممن بغى عليه وبطش به وتكبر وتجبر عليه؛ لضعفه، فحينئذ هذا الضعيف لم يجد في قوته ولا في قوة غيره من ينصره ويرد عنه الظلم، وقد سدت في وجهه الأبواب، وأظلمت في وجهه الدنيا، وربما انتهك شيء من عرضه، وربما أهين في شرفه، وربما استلب ماله، فلم يجد أمامه طريقاً ولا باباً إلا باب السماء يطرقه، وإلا باب الدعاء يلهج به لله سبحانه وتعالى، ولسان حاله يقول: لئن عدمت قوة الأرض ولئن عدمت أسباب البشر، فإن قوة الله عز وجل وأسبابه لا تعدم، فيصل حباله بالسماء، ويمد يديه بالدعاء، ويكون قد انكسر في نفسه من أثر ما وقع عليه من الظلم، وشعر بشدة فقره وعظيم احتياجه وشدة لجئه لله سبحانه وتعالى.
ولذلك قال ابن تيمية رحمه الله في المجلد الأول من فتاويه فيما قد يقع على الإنسان من البلاء فيدعو الله عز وجل بكشف البلاء، قال: وربما أخر الله عز وجل إجابة دعائه، فما يزال يدعو ويلح ويناجي وينادي حتى يجد من أثر لذة المناجاة وحلاوة الدعاء ما هو أعظم مما كان يسأله من تفريج البلاء، وهذه من ألوان العبودية، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الدعاء مخ العبادة)، وقال: (الدعاء هو العبادة) كما في حديث آخر.
وهذا يدلنا على عظمة هذا الأمر.
قوله: (والمسافر حتى يرجع) أيضاً المسافر كما قال المناوي في فيض القدير: لأنه مستوفز مضطرب، قلما يسكن إلا إلى الرحل والترحال، وهو على وجل من الحوادث، فهو كثير الإنابة إلى الله سبحانه وتعالى، فسره منفصل عن الأغيار، ومتعلق بالجبار.
أي: عن غير الله عز وجل، فالمسافر في جزع؛ لأنه ليس مستقراً مطمئناً، ويشعر أيضاً بالخوف من الطريق حتى مع وسائل النقل الحديثة، لو تأمل الإنسان وتدبر لوجد أن الذي يركب الطائرة معلق بين السماء والأرض، ما بين غمضة عين وانتباهتها لا يدري ما يحدث الله عز وجل في هذه الوسائل، ونحن نسمع عن سقوط الطائرات، وعن تحطم القطارات ونحو ذلك، لكن غفلت القلوب وسهت العقول، نسأل الله السلامة والعافية.
إذاً: السفر ليس فيه طمأنينة، وإنما فيه نوع من الخوف والوجل، يجعل القلب دائماً يحتاج إلى الركون والسكون، فلا ركون ولا سكون إلا إلى الله سبحانه وتعالى، فترى المسافر يدعو الله عز وجل بالسلامة، ويدعو الله عز وجل ببلوغ المنزل ووصول مبتغاه.
وهكذا الإنسان في هذه الدنيا مسافر، فلو حقق ما يكون في سفره المعتاد في دنياه من التعلق بالله والخوف والوجل وعدم الاستقرار والطمأنينة والركون إلى هذه الدنيا، لكان حقاً مسافراً إلى الله وإلى رضوانه سبحانه وتعالى وطلب مبتغاه؛ لأن المسافر ينبغي ألا يكون ساكناً بل مضطرباً، وألا يكون على طمأنينة بل خائفاً، وكذلك لو كنت في هذه الدنيا على هذا المعنى لكان لك إجابة دعاء مستمرة.
فإذا كان هو في أثناء السفر القصير وعد بالإجابة، فإذا جعلت دنياك كلها دار سفر، وكنت فيها على هيئة المسافر، فإنه يرجى بإذن الله عز وجل أن تكون مجاب الدعوة دائماً.