التقديس معناه في أصل اللغة التطهير والطهارة، ويدخل فيه ويرتبط به في هذا المعنى شرف الصفات والخلال، ويتبع ذلك التعظيم والإجلال، وفيه كذلك الخير والبركة وحسن الحال والمآل.
فكل أمر عظيم مقدس طاهر، منزه عن العيوب والنقائص، مشتمل على عظيم الصفات والخصال، ومن ثم فإن فيه الخير والبركة، ويجب له التعظيم والإجلال.
فمن الذي يقدس؟ ومن الذي يجعل الشيء عظيماً محترماً وله أحكام تخصه في معاملته وفي توقيره وتعظيمه؟ إنها مسألة في أصل ديننا ليست مبنية على اجتهاد علماء، ولا اتفاق فقهاء، وإنما هي أحكام ربانية من الله جل وعلا.
وهذا الاختيار من الله يدل على كمال الألوهية لله عز وجل {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} [القصص:68].
هو الذي يختار جل وعلا، فيجعل من البشر رسلاً هم صفوة الخلق، ولهم مقام من التقديس والتعظيم يليق بنبوتهم ورسالتهم.
وهو الذي يصطفي من البقاع بقاعاً فيجعلها مقدسة لها أحكام خاصة، ولها فضائل جليلة، وكل من يسيء إليها أو ينتقص من تعظيمها فله وعيد شديد وعذاب عظيم، بل وحد مشروع في الدنيا قبل الآخرة.
فالله تعالى هو الذي جعل هذه الخصيصة لنفسه، ففضل من الأزمان أزماناً وجعل لها خصائص، وفضل من البشر خلقاً وجعلهم رسلاً وأنبياء، وفضل من البقاع بقاعاً وجعلها مواطن لبيته المقدس ومسرى رسوله الكري، ومسجده العظيم صلى الله عليه وسلم.
هو الذي جعل ذلك حقاً له جل وعلا {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75]، {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124] وذلك من خصائص الحق سبحانه وتعالى، لا يحق لأحد أن يكون له من ذلك شيء مطلقاً، كما لا يحق لأحد أن يعترض أو يجترئ على ما خصه الله جل وعلا بالتقديس والتعظيم.
والتدنيس في مقابل ذلك مرتبط بالنجاسة والإذلال والإهانة لما هو مقدس، فإنه يدخل على الشرف ما لا يناسبه، ويضيف أو يعترض على العظمة بما يناقضها، وذلك لا يجوز بحال من الأحوال، ولست هنا مفيضاً في هذا المعنى، لكني أقول: إن أعظم تقديس هو تقديس الله سبحانه وتعالى، فهو جل وعلا الملك القدوس المنزه عن كل النقائص التي تلحق بغيره من الخلق جل وعلا.
وتنزيه الله سبحانه وتعالى وتقديسه مقصود به تنزيهه عن كل ما لا يليق، كما قالت الملائكة: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30]، ومقام ذات الله عز وجل أعظم مقام عند المسلمين المؤمنين، وكذلك كلام الله سبحانه وتعالى القرآن العظيم له أحكام كثيرة ودقيقة، حتى إن الفقهاء فصلوا في كثير منها بحسب ما ورد من الاستفتاءات، ولعلي أشير إلى بعضها لنرى كيف يكون هذا التعظيم سارياً في كل أمر، حتى وإن كان في نظر بعض الناس صغيراً أو هيناً.
إن الفقهاء يسألون عن مد القدم إذا كان في تجاهها أو في مقابلها المصحف (كتاب الله عز وجل)، فيفتون بالحرمة إذا كان في ذلك شيء من الاستهانة وعدم التعظيم، وفي فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم -مفتي المملكة السابق- ورد قوله: أما وضع المصاحف في أكياس خلقة من الخيش ونحوه وتعليقها فهذا لا يجوز؛ لأن فيه إهانة للقرآن، ولو لم تكن متعمدة.
وسئل الشيخ يوسف الددوي -من علماء الأزهر الشريف- عن شرب الدخان في مجالس القرآن فقال: أما شربه في مجالس القرآن فهو حرام.
وأفاض في بيان ذلك بأن فيه إعراضاً عن التدبر بالتلهي، وأن فيه إشعاراً بالاستهانة، وأن فيه إيذاءً لمن يصغون ويستمعون لكلام الله جل وعلا.
وأمضي -أيضاً- إلى فتوى للعز بن عبد السلام إمام المجاهدين وعلم المفتين، فقد سئل: هل يجوز تسليم المصحف لذمي ليجلّده؟ وهل يجوز ترك كتب التفسير والحديث عند غير المسلمين؟ فأجاب رحمه الله: لا يجوز ترك كتب التفسير والحديث عندهم، ولا تدفع المصاحف ولا التفاسير ولا كتب الحديث إلى كافر لا يرجى إسلامه، وينكر على فاعله.
أي: على فاعل ذلك.
ولعل مثل هذه الصور عندما نسمعها نرى أن كثيراً منها يقع اليوم وليس في النفوس منه حرج، وأن غير ذلك -بل ربما أكثر منه- نراه في واقع أمة الإسلام.
ألست تسمع الإقسام بالله عز وجل يسرد ضمن الغناء مع الألحان، يقول مغنٍ وضيع أو راقصة داعرة؟! ألم تسمع أن مغنياً عربياً أدخل بعض آيات من القرآن في سورة يوسف عليه السلام في أغنية لحنها وغناها؟! ألست تسمع صوراً كثيرة في واقع المسلمين اليوم كلها عند من يدقق في معنى التقديس والتعظيم تجرحه وتخدشه، وقد تصل إلى صور عظيمة من الإهانة يأتي الحديث عن خطورتها وعن عظمتها وعما حكم به بعض أهل العلم بكفر فاعلها؟! إن مثل هذه الأحوال لا تجوز الاستهانة بها، ولا التهوين من شأنها، فإن كل صورة من صور الاستهزاء المناقض للتعظيم فيها أحكام صارمة {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66].
قالها قوم من المنافقين في غزوة تبوك أثناء مسير النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، قال بعضهم لبعض: ما رأينا مثل أصحابنا هؤلاء أرغب بطوناً وأجبن عند اللقاء -يعنون بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم والصفوة المختارة من أصحابه رضوان الله عليهم- وبلغ الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتنزل عليه الوحي بهذه الآيات، وعلم المنافقون بهذا، فابتدر أحدهم إلى ناقة النبي صلى الله عليه وسلم يستعطفه والقرآن ينزل: {قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:66].
ويأتينا مثل هذا كذلك فيما أجمع عليه علماء الأمة في شأن سب المصطفى صلى الله عليه وسلم، والانتقاص من قدره ومقامه ولو بصورة من الصور التي قد يراها بعض الناس تحتمل تأويلاً، فقد نقل أهل العلم الإجماع على ذلك.
قال القاضي عياض رحمه الله: أجمعت الأمة على قتل منتقصه من المسلمين وسابّه، وكذلك حكى غير واحد الإجماع على قتله وتكفيره.
وقال محمد بن سحنون: أجمع العلماء على أن شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم والمتنقص له كافر، والوعيد جاء عليه بعذاب الله، وحكمه عند الأمة القتل، ومن شك في كفره وعذابه كفر.
ليست هذه المسائل هينة، إنها عند علماء الأمة في ضوء كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من أعظم المسائل وأجلها؛ لأنها تتعلق بالمقدسات.
وتأمل قول الحق جل وعلا: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25]، وتأمل قول الله عز وجل في حرمة البيت الحرام ودخول المشركين إليه، وتأمل كل الأحكام المتعلقة بكل ما قدس الله سبحانه وتعالى ونزه من هذه المقدسات التي جعلت لها أحكام خاصة تعظيماً وإجلالاً وتوقيراً.
ألا نعرف أحكاماً كانت لمناجاة النبي صلى الله عليه وسلم؟! ألا نعرف أحكاماً خاصة في خفض الصوت بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم؟! ألا نعرف أحكاماً خاصة في طريقة نداء وخطاب الرسول صلى الله عليه وسلم؟! ألا نعرف أحكاماً خاصة بالقرآن كيف يتطهر له، وكيف يحترم عند قراءته، وكيف يجل في تدبره، وكيف يعظم في العمل به؟! ألا نعرف كل ذلك؟! ولكننا نرى صوراً منه في واقع حياة أمتنا تتسرب قليلاً قليلاً، ويألفها الناس شيئاً فشيئاً، ثم نأتي إلى صور أعظم هي التي تكاد اليوم تلفت أنظار الناس، أصبح اليوم هناك من يسمع أو يرى المنكر الذي ليس بعده منكر فلا يتغير ولا ينكر، يسمع الكفر البواح وكأنه لا يعنيه شيء.
وما بعد ذلك من أمور عظيمة ومقدمات لما بعدها نجدها اليوم في واقعنا، حتى إننا نجد ذلك متفاوتاً في الأجيال، حيث تجد الكبير منا اليوم عنده من توقير رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوقير القرآن الكريم وتوقير بيوت الله عز وجل ما لا نجده بالقدر نفسه عند كثير من الجيل الناشئ؛ لأنهم لم يعودوا على التوقير والتعظيم المناسب الملائم الذي ينبغي أن يربى عليه الأبناء منذ نعومة أظفارهم.
لقد قال الحسن: كانوا يعلموننا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نُعلم الآية من القرآن.
وكان كذلك تعظيم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيما بينهم، حتى إن ابن عمر رضي الله عنه أراد أن يجيب النبي صلى الله عليه وسلم لما سأل عن شجرة مثلها بالمسلم هي النخلة، فاستحيا ابن عمر أن يجيب لأن في القوم أبا بكر وعمر! كل هذه المعاني كانت جلائل وعظائم في النفوس مبنية على تعظيم الإيمان وتثبيت وترسيخ اليقين في القلوب، فلما ضعف الإيمان وتزعزع اليقين وهانت وضعفت الهمم وذلت النفوس أصبحت لا تنتفض إلا في النادر.
عندما نستمع اليوم إلى تصريحات اليهود -عليهم لعائن الله- مرة بعد مرة وهم يزمعون على أن يدخلوا إلى بيت المقدس ويدنسوا المسجد الأقصى نسمع الناس يتحدثون، ونسمع الأخبار تتناقل، وكأن شيئاً في هذه الحادثة لا يحدث، وكأن الأيام والليالي والأعوام والأشهر والأحداث المتتالية والأفعال الإجرامية المتوالية والخطط الداعية إلى الحفر تحت بيت المقدس وغيرها لا تسمع ولا تُعلم ولا يلتفت إليها.