الصفحة التي تليها، وهي صفحة مهمة، فقد بلّغ النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر مبلغاً، وحقق غاية عظمى، ولعل قائلاً أن يقول: يكفي النبي عليه الصلاة والسلام ما حققه من إيجاد دولة الإسلام في المدينة! وهذه نظرة خاطئة قاصرة لا تفقه هذا الدين، ولا تعرف رسالته، ولا تعرف أنه خاتم الأديان، وقد ارتضاه الله عز وجل لهذه البشرية جمعاء، فعندما استقر الأمر للنبي عليه الصلاة والسلام بدأت صفحة جديدة أخرى، وهي الاستمرار في الدعوة، وهذا يبين لنا معلماً مهماً وهو: أن هذه الدعوة لا منتهى لها، لا في الزمان، ولا في المكان، ولا في الأشخاص، كما قال صاحب (الرحيق المختوم) في قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر:1 - 2]؛ ولذلك لا توقف في الدعوة، فإن هذه المرحلة السابقة في إيجاد المجتمع المسلم إنما هي مرحلة قوية، ونقلة نوعية لمزيد من العمل لأجل الدعوة ولهذا الدين.
أما أنها مرحلة نوعية: فلأن الناس يرون مجتمعاً إسلامياً كاملاً تتمثل فيه الأحكام والآداب والأخلاق والأعراف الإسلامية، فهذه دعوة ناطقة من خلال المشاهد الحية، والممارسة الحياتية اليومية في مجتمع المدينة المنورة، ثم هي أيضاً نوع من التكامل والقوة التي تساعد على تأسيس الدعوة نفسها، وتأخذ كل أسباب قوتها؛ لتنطلق انطلاقة أكثر وأقوى مما إذا كانت الدعوة عند فئات مسلمة قليلة، وفي مجتمعات منحرفة، أو تكون كثرة في ظل حكم كافر أو نحو ذلك من الصور، فإن الصورة المثلى والأقوى في التأثير هي ما يكون بعد وجود هذا المجتمع المسلم، والأرض الإسلامية.
ولذلك فإن الصفحة العظمى، والصفحة الأساسية الظاهرة البينة في هذه المرحلة هي صفحة الجهاد الإسلامي، وهذا يبين لنا -كما قلت- استمرارية الدعوة وشمولها وانطلاقها الذي لا يحده حد من زمان ولا من مكان، وقد ذكر ابن القيم رحمة الله عليه في (زاد المعاد) المراحل التي مر بها الجهاد أو القتال في الإسلام: من كف الأيدي، ثم الانتصار فقط ممن اعتدى، إلى المرحلة التي فيها الجهاد والانطلاق إلى أهل الكفر في كل مكان: فإما أن يسلموا، وإما أن يعطوا الجزية، ويفتحوا الطريق للمسلمين ليعيشوا في هذه البلاد، ويدعوا فيها، ويعلوا كلمة الله عز وجل، دون إكراه في الدين، وإما أن يقاتلوا حتى تزاح هذه العوائق التي تحول بين الناس وبين هذا الدين.
ولذلك فإن الجهاد هو نوع من إزالة العوائق عن طريق الدعوة، والجهاد العسكري هو صورة من صور الدعوة؛ فكما أن هناك جهاداً قولياً، وهناك جهاداً تربوياً، وهناك جهاداً نفسياً؛ فهناك جهاد عسكري، وكلها مرتبطة بغاية الدعوة، فليس الجهاد في الإسلام إراقة دماء، ولا إزهاق أرواح، ولا تدمير بيوت، ولا إحراق زروع وثمار، بل الأمر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية: (لا تسألني قريش خطة يعظمون بها البيت، ويحقنون بها الدماء إلا أعطيتهم إياها) وكما فعل عليه الصلاة والسلام في يوم فتح مكة عندما عفا عمن كانوا ناوءوه؛ ليبين استعلاء هذا الدين عن الانتقام والثأر النفسي، وليبين رسالة هذا الدين في أنها تهدف إلى إيجاد الغايات، وإلى تحقيق الرسالة، وإلى نشر الدعوة لا أقل ولا أكثر.
فكانت هذه الصفحة في المدينة المنورة صفحة الجهاد الإسلامي، وهذه الصفحة المهمة ليس هذا موضع الحديث فيها، فإنها قد استغرقت مثل ما استغرقت الفترة المكية وأكثر من ناحية الزمن، ولئن كان المسلمون قد خسروا أو أرهقوا بالمقياس المادي في الفترة المكية، فإنهم في الفترة المدنية قد جاهدوا، وبذلوا أرواحاً وأموالاً، وأجروا دماءً في سبيل الله عز وجل، وهذا يبين أن الدعوة متلازمة مع التضحية والبذل في سبيل الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ} [التوبة:111].
ويبين لنا أيضاً من وجه آخر: أن هذه الدعوة بانطلاقتها الجهادية يتلازم فيها وجود المسلمين مع دعوتهم لدين الله عز وجل؛ فلا ينبغي أن يكون هناك مسلمون ولا تكون هناك دعوة، أو لا يكون هناك جهاد، بل حيثما وجد مسلمون صادقون عارفون بهذا الدين وجدت الدعوة، ووجد الجهاد في سبيل الله عز وجل، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الجهاد ماض إلى يوم القيامة) وهذا الحديث في سنن أبي داود بسند صحيح، وفي بعض الروايات: (لا يبطله بر ولا فاجر)، وقال عليه الصلاة والسلام أيضاً: (الجهاد ماض مع كل بر وفاجر) أي: وإن كان القائد فيه فجور أو فسق إلا أنه يرفع راية الإسلام، ويجاهد في سبيل الله عز وجل، فإنه يجاهد معه؛ إعلاءً ونصرة لدين الله عز وجل.