الصفحة الخامسة، وهي صفحة مندرجة أيضاً في هذا الباب، وهي: الحكمة والتهيئة منه صلى الله عليه وسلم في تنفيذ هذا الأمر، والدعوة إلى الله عز وجل.
لقد بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بالأقربين، وليس كل الأقربين، وإنما كان يختار اختياراً، وينتقي انتقاءً، ويتوسم توسماً، ويتفرس فراسة، فيختار الأدنى والأقرب من هذا الدين في خلقه وسمته، ورجاحة عقله، وطهارة سلوكه، فكان أول من أسلم من الرجال أبو بكر رضي الله عنه، وقد ورد في كثير من الآثار: أنه ما شرب خمراً، ولا سجد لصنم قط، وكان أنسب قريش لقريش، وكان أشهر رجالها في تجارتهم، وكانت هذه الملامح هي ملامح الانتقاء التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم في أبي بكر.
وكان أول من أسلم من الغلمان علي بن أبي طالب، وكان لصيق النبي صلى الله عليه وسلم، ورفيقه، وأول من أسلم من الموالي زيد بن حارثة، وكان مولىً للنبي عليه الصلاة والسلام، ومن النساء زوجه خديجة رضي الله عنها، وكانت قريبة منه، فكان صلى الله عليه وسلم يبذر الدعوة في الأقربين المقربين، لقربهم من هذه الدعوة، ولوجود الملامح التي يؤمل فيهم من خلالها أن يكونوا أسرع في القبول، وأسرع في التأثر، وأسرع في أن يعضدوا هذه الدعوة، وأن يسيروا في ركابها، وأن يدعموها، إضافة إلى القرب الحسي، سواء كان قرباً في النسب أو كان قرباً في البيئة.
وهذا لا شك أنه مهم؛ لأن بعض من يحبون الدعوة، ويرغبون في نشرها، يشرقون ويغربون، ويدعون هنا وهناك، فينفع الله بهم، إلا أن النفع الأكثر والأظهر في تأثيره، والأسرع فيما يعود على الدعوة والمجتمع الإسلامي من أثر، هو هذا الأسلوب الدعوي الذي يختص بهذه الدوائر القريبة حساً ومعنىً، فإذا أردت أن تدعو اليوم فإنك تدعو من يصلي ولو في بيته، فهذا أدنى إلى القبول ممن قد ترك الصلاة، أو ترك بعضها، أو أخرها عن أوقاتها، وتدعو من يصلي في المسجد، فتكون استجابته أدعى وأقوى ممن يصلي في بيته، وتدعو من لا يقارف المعاصي والمنكرات، ولا يتوغل في الشهوات، فيكون أقرب استجابة ممن هو واقع فيها.
فالأقرب إلى هذه الدعوة هو الأقرب استجابة إليها، ولا يعني ذلك بحال من الأحوال ألا يُدعى غير هؤلاء، ولكن هذه أولويات وانتقاءات، والنبي عليه الصلاة والسلام قد أنذر عشيرته أجمعين، لكنه خص أولئك ابتداءً كما رأينا، حتى كان اختياره عليه الصلاة والسلام في موضعه ومكانه، فإذا بهذه الكوكبة: امرأة وغلام ومولىً وشريف من الأشراف، تنطلق بهذه الدعوة، فإذا أبو بكر يسجل في صحيفته عثمان وطلحة وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم أجمعين، ويدخلون في هذا الدين بدعوة أبي بكر رضي الله عنه، بسبب ما كان عنده من إيمان وحصافة ورجاحة عقل إضافة إلى شرفه وكلمته المسموعة.
إذاً: من هذه الصفحة نقرأ حكمة الدعوة، والأسلوب الذي تطبق به هذه الدعوة، فإنها ليست مجرد اندفاع، وإنما هي دراسة وفراسة، وتحليل وتقويم، ثم تأتي بعد ذلك خطوات مبنية على دراسة وعلى تهيؤ وتدرج؛ حتى يكون لها أثرها، ويكون لها رصيدها وثمارها المرجوة.