انظر إلى الصورة القرآنية الأخرى والعظمى في قوله عز وجل: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72] فأي أمانة أعظم من هذه الأمانة التي تخلت عن حملها السماوات السبع والأرضون السبع والملائكة المسبحة بحمد الله، والجبال الراسخة وحملها الإنسان؟! إنها أمانة التكليف بالأوامر والنواهي، والأخذ بدين الله، والقيام بأمره، وترتب على ذلك الشرط ثواب على الإحسان، وعقاب على الإساءة، ورفعة عند الرحمن لمن قام بذلك وأدى واجبه، أو دنو وسفل وسخط وغضب من الجبار لمن خالف وأخلف، نسأل الله عز وجل السلامة.
وابن كثير بعد أن سرد أقوالاً من أقوال السلف في شأن هذه الأمانة قال: أقوالهم متفقة وراجعة إلى أنها التكليف بقبول الأوامر والنواهي بشرطها.
وقال السعدي مؤكداً هذا المعنى: الأمانة التي ائتمن الله عليها المكلفين هي امتثال الأوامر واجتناب المحارم في حال السر والخفية كما في العلانية.
ثم بين ما يتعلق بالآية التي بعدها فقال: فانقسم الناس بحسب قيامهم بها -أي: بهذه الأمانة- إلى ثلاثة أقسام: منافقون أظهروا أنهم قاموا بها ظاهراً لا باطناً، ومشركون تركوها ظاهراً وباطناً، ومؤمنون قائمون بها ظاهراً وباطناً، ومن هنا جاءت الآية التي بعدها: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:73]؛ لأن الذين قبلوا الأمانة واجتهدوا فيها قد يقصرون، وقد يخطئون، وهذه من طبيعة البشر، فمنَّ الله عليهم بتوبته لما صدقوا في أداء أمانته وأخلصوا دينهم ونيتهم في القيام بواجبهم لربهم سبحانه وتعالى.