الجانب الآخر أنقل فيه نصوصاً تبين مهمة أن القرآن وحمله ليس حفظاً وليس تجويداً وليس تنغيماً بالأصوات، وليس معرفة بالتفاسير فحسب، وإنما القرآن سلوك يغير القلب، ويغير نطق اللسان، فلا يتكلم بفاحش القول، ويغير سمت الإنسان كله، ولذلك أهم شيء في حامل القرآن خُلُقُ القرآن الذي قالته عائشة في وصف الرسول عليه الصلاة والسلام: (كان خلقه القرآن).
ولذلك ينبغي أن نعيب وأن نشدد النكير على حملة القرآن إذا خالفوا نهج القرآن؛ لأن المطلوب منهم أعظم، والواجب في حقهم أكبر.
وأسوق بعض ما ذكره العلماء فيما يتعلق بآداب وأخلاق حملة القرآن، وأكتفي بذكرها، فإن كل جملة منها جديرة -والله- بأن تكون منبهة وفيها ما يهز الإنسان المؤمن المرتبط بكتاب الله أو بحفظه أو بتلاوته؛ لأننا في الحقيقة قد نخطئ ونجرم ونكون قدوات سيئة عندما نقدم للناس من يحفظون القرآن ويجودونه ولكنهم لا يلتزمون أحكامه ولا يتأدبون بآدابه.
يقول صاحب كتاب (آداب حملة القرآن): أول ما ينبغي له -أي: حامل القرآن- أن يستعمل تقوى الله في السر والعلانية باستعمال الورع في مطعمه ومشربه، وملبسه ومسكنه، وأن يكون بصيراً بزمانه وفساد أهله، فهو يحذرهم على دينه، مقبلاً على شأنه، مهموماً بإصلاح ما فسد من أمره، فلا ينشغل بعيوب الناس قبل عيب نفسه، حافظاً للسانه، مميزاً لكلامه، إن تكلم تكلم بعلم إذا رأى الكلام صواباً، وإن سكت سكت بعلم إذا كان السكوت صواباً، قليل الخوض فيما لا يعنيه، يخاف من لسانه أشد مما يخاف من عدوه، يحبس لسانه كحبسه لعدوه؛ ليأمن شره وشر عاقبته، قليل الضحك مما يضحك منه الناس لسوء عاقبة الضحك، إن سُرَّ بشيء مما يوافق الحق تبسم، يكره المزاح خوفاً من اللعب، فإن مزح قال حقاً، باسط الوجه، طيب الكلام، لا يمدح نفسه بما فيه، فكيف بما ليس فيه؟ يحذر نفسه أن تغلبه على ما تهوى مما يسخط مولاه، لا يغتاب أحداً، ولا يحقر أحداً، ولا يسب أحداً، ولا يشمت بمعصية، ولا يبغي على أحد ولا يحسده، ولا يسيء الظن بأحد إلا لمن يستحق.
ثم قال: فالمؤمن العاقل إذا تلى القرآن استعرض القرآن، فكان كالمرآه يرى بها ما حسن من فعله وما قبح منه، فما حذره مولاه حذر منه، وما خوفه به من عقابه خافه، وما رغبه فيه مولاه رغب فيه ورجاه، فمن كانت هذه صفته أو ما قارب هذه الصفة فقد تلاه حق تلاوته، ورعاه حق رعايته، وكان له القرآن شاهداً وشافعاً وأنيساً وحرزاً، ومن كان هذا وصفه نفع نفسه، ونفع أهله وعاد على والديه وعلى ولده كل خير في الدنيا والآخرة.
ومن قول عمر: (ولقد أتى علينا حين وما نرى أحداً يتعلم القرآن يريد به إلا الله، فلما كان بأخرة خشيت أن رجالا يتعلمونه يريدون به الناس وما عندهم، فأريدوا الله بقرآنكم وأعمالكم، وإنا كنا نعرفكم من لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ينزل الوحي، وإنما أعرفكم اليوم بما أقول: من أعلن خيراً أجبناه عليه وظننا به خيراً، ومن أظهر شراً بغضناه عليه وظننا به شراً، سرائركم فيما بينكم وبين الله عز وجل).
ويقول ابن مسعود: (ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبورعه إذا الناس يخلطون، وبتواضعه إذا الناس يختالون، وبحزمه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يصوتون) إنه رجل حمل كلام الله في قلبه، وحوى أعظم كنز في الوجود في صدره، فلا ينبغي له أن يخوض مع الخائضين، ولا أن يلعب مع اللاعبين، ولا أن يتصف بأخلاق الفاسدين، فالله أسأل أن يجعلنا من أهل القرآن.