أنتقل إلى نقطة مهمة قبل أن أعرج على الواقع المعاصر وإلى الصورة التي نريد أن تكون لنا في ذواتنا وفي أفرادنا.
أريد أن أشير إلى قضية الشمول التي جاءت في كتاب الله عز وجل؛ لأن لها ارتباطاً وطيداً بعلاقة القرآن بالحياة، لقد جاء هذا القرآن شاملاً شمولاً متعدد الجوانب، فإذا نظرنا فإننا نجد هذا القرآن شاملاً من حيث ما يتعلق بالمعاني التي يحتاج الناس إليها في حياتهم الدنيا في قضايا الإيمان والنفوس والقلوب.
والله عز وجل يقول: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء:9] ففيه الهداية، وكذلك يقول الله عز وجل: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء:82] فهو الشفاء والرحمة، ويقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} [يونس:57] فهو الموعظة للقلوب والمهيء للنفوس إلى ابتغاء رضوان الله عز وجل، وهو كذلك العاصم، كما قال عز وجل: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]، وقد ذكر أهل التفسير أن حبل الله هو القرآن، وكما قال الله عز وجل: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} [الزمر:23] فتوافر الشمول والهداية والطمأنينة والسكينة والرحمة والموعظة والتذكرة في هذا القرآن.
ثم انظر إلى الشمول من وجه آخر لتجد أن هذا القرآن خاطب كل شيء في هذا الإنسان.
ففيه خطاب للعقول بالتدبر والتأمل، وفيه خطاب للقلوب بالموعظة والتذكير، وفيه خطاب للجوارح بتعليمها ما أراد الله عز وجل منها من البصر وغضه، والسمع وكفه عن الحرام، وفيه ذكر الجبال الساجدة والألسن الذاكرة، كل ذلك مذكور في كتاب الله عز وجل، فهو شامل لكل شيء في حياة الإنسان.
وانظر كذلك إلى الشمول من وجه ثالث، فهو الذي يشمل كل أصناف الإنسان.
فهو الذي يخاطب الرجال، ويخاطب النساء، ويذكر منهج الصغار والأطفال، ومنهج الرجال الكبار، فلا يخرج عن هذا القرآن شيء أو صنف من الناس مطلقاً، فلهم جميعاً خطاب، ولهم تنبيه، ولهم آداب، ولهم تعليم وهداية.
ثم انظر إلى الشمول من وجه رابع، فإنك تجد شمول القرآن ينتظم سائر مناحي الحياة.
ففيه منهج متكامل في الحكم والسياسة، ومنهج متكامل في العسكرية والجيش، ومنهج متكامل في المال والاقتصاد، ومنهج متكامل في الحياة الاجتماعية، ومنهج متكامل في سائر ما تحتاج إليه هذه الحياة، فأنت ترى منهجاً كاملاً في الأسرة المسلمة، وفي تربية الأبناء، وفي رعاية المجتمع، وفي الحقوق بين الزوجين وغير ذلك في أصول كلية جامعة، وأنت ترى كذلك منهج الحكم والسياسة الذي يتمثل بأن الحكم لابد من أن يكون بما أنزل الله، قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45]، وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47].
ثم يؤسس القرآن في منهج الحكم أساس العدل الذي لا قيام لحكمه إلا به، ثم يذكر بعد ذلك في ثنايا هذا ما يتعلق بنزعات الأهواء واستبدال شرع الله عز وجل اتباعاً لهوى النفوس، ويبين ملامح عامة في كل ذلك، ثم يذكر الله عز وجل في شأن الاقتصاد قوله سبحانه وتعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275]، وينهى عن أكل أموال اليتامى وأكل أموال الناس بالباطل، ويبين الله سبحانه وتعالى التجارة التي تكون عن التراضي، ويبين أوجه الرزق والزراعة والثمار وما يلحق بذلك وما يترتب عليه من الزكاة في الأموال والشفقة على الفقراء والمساكين.
إنه منهج متكامل للمال والاقتصاد في كنزه وفي إنفاقه وفي تشغيله واستثماره، منهج متكامل لا يخرج عنه صغير ولا كبير مطلقاً.
وانظر كذلك إلى سائر الجوانب فإنك واجد هذا واضحاً بيناً، ولقد ذكر الله عز وجل لنا من قصص الأنبياء والمرسلين ما يبين فيه تقويم هذه المناحي في الحياة، فقد قص الله عز وجل علينا نموذجاً للحكم الفاسد الجائر الظالم في قصة فرعون، وبين فيها مغبة الاستبداد السياسي والحكم الدكتاتوري كما يسمى اليوم، وبين لنا كيف عالج موسى عليه السلام هذا الفساد السياسي بالعلاج الإيماني الذي نقضه من أساسه، وقوض بنيانه، وهد أركانه، وأزاله من هذه الأرض ليكون حكم الله عز وجل وشرع الله سبحانه وتعالى هو المسيطر.
وبين الله عز وجل كذلك في قصة لوط المفاسد الأخلاقية في تلك الرذيلة التي ذكرها الله عز وجل على لسان لوط عندما خاطب قومه فقال: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:165]، وبين كيف عالج لوط عليه السلام بالإيمان وبالعقيدة والتوحيد هذا الفساد الأخلاقي، وأسسه بعد ذلك على المنهج الإيماني.
وذكر لنا الله عز وجل في قصة شعيب نقض قومه للمكيال والميزان، وما يتعلق بهذا الانحراف في مجال الاقتصاد والمعاملات المالية، وكيف قوَّم ذلك شعيب صلى الله عليه وسلم بالمنهج الإيماني وبالرسالة الربانية، كل ذلك ليبين للأمة أن كل شأن من شئون حياتها لابد أن ترجع فيه إلى كتاب ربها.
وهذا الشمول -كما قلت- يتناول ما يتعلق بالنفس الإنسانية من ألوان تغيراتها، ويتناول بعد ذلك ما يحتاجه الناس على اختلاف أجناسهم صغاراً وكباراً رجالاً ونساءً، ويتناول كذلك ما يتعلق بنواحي الحياة، وما يتعلق كذلك بجوارح الإنسان.
ولذلك حق لهذا الكتاب أن يكون هو كتاب الحياة، وأن تكون الحياة منبثقة منه وراجعة إليه؛ لأنه كما قال الله عز وجل: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38]، فما من شيء إلا له أصل، حتى قال أبو الدرداء رضي الله عنه: (مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وما من طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ترك لنا منه خبراً).
وقال سلمان رضي الله عنه حين قيل له: علمكم نبيكم كل شيء؟ قال: (أجل، علمنا كل شيء حتى الخراءة)، يعني: كيف يقضي الرجل حاجته.
فكل شيء مذكور في كتاب الله بأعجز لفظ وبأدق معنىً وبأحكم هداية وبأشمل توجيه، فإنك تجد ما يتعلق بالعلاقة بين الرجل والمرأة، وما يتعلق بحيض النساء، وما يتعلق بالأطفال، وما يتعلق بالاستئذان، وما يتعلق بأدق أمور تفاصيل الحياة، كل ذلك مذكور له أصل وكليات في كتاب الله عز وجل.
وحق لأمة هذا كتابها أن لا تستبدل به شيئاً، وأن لا تطلب في غيره هداية، وقد نبه على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما رأى في يد عمر بن الخطاب صحفاً من التوراة يقرأها وينظر فيها فأخذه الرسول عليه الصلاة والسلام - وعمر هو الشديد القوي- فهزه وقال: (أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟! والله لو كان موسى بن عمران حياً ما وسعه إلا أن يتبعني).