وقد ربط المصطفى عليه الصلاة والسلام أمر الدنيا والتقدم فيها والجاه والشرف بالإيمان بكتاب الله عز وجل.
ففي صحيح البخاري عن عثمان رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)، فمن أراد أن تكون له الخيرية في هذه الأمة في مجتمعات المسلمين التي تقوم بتنظيم ميزان الإسلام والإيمان فطريقه أن يكون مرتبطاً بهذا الكتاب تعلماً وتعليماً.
ولذلك ورد في الحديث عن أنس رضي الله عنه ما يدل على أن الصحابة كان صاحب القرآن فيهم معظماً وصاحب شرف ومنزلة، فهو يقول: (كان الرجل إذا حفظ البقرة وآل عمران جد في أعيننا) أي: صار ذا منزلة عالية، وصارت نظرة الناس إليه محترمة وموقرة، وصار هو الذي يُقدم على غيره.
وهذا يبين أن الشرف في الدنيا والشرف في الآخرة طريقه موصول بكتاب الله عز وجل.
ثم ننظر إلى وجه آخر، فبالقرآن يكون التقدم في أمر الدين والتقدم في أمر الدنيا والتقدم في أعظم فريضة بعد التوحيد والركن الثاني من أركان الإسلام وهو الصلاة، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله)، فأعظم مؤهل في التقدم لأعظم فريضة جامعة مكررة في اليوم والليلة خمس مرات هو حفظ كتاب الله عز وجل.
ولذلك يروي أحد الصحابة أنه روى لبعض القوم هذا الحديث ثم قال: (فأقيمت الصلاة وليس في القوم أقرأ مني، فصليت بهم إماماً وأنا ابن سبع)، وفي رواية عند البخاري: (أن أحد صغار القراء تقدم فصلى إماماً، وكان ثوبه قصيراً، فقال قائل: غطوا عنا است قارئكم).
وسأضرب أمثلة واقعية حية كثيرة من حياة المجتمعات الإسلامية لتقدم حفظة القرآن في أمر الدين وفي أمر الدنيا ومسألة الولايات والحكم والقضاء وغير ذلك.
جاء في صحيح مسلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لقي عامله على مكة في الحج فقال: من خلفت على أهل مكة -أي: من جعلته نائباً لك-؟ قال: خلفت عليهم ابن أبزى.
فقال عمر: ومن ابن أبزى؟ فقال: مولى من موالينا.
فقال عمر كالمستنكر: أخلفت على أهل مكة مولى؟! وفي رواية البخاري: أخلفت على أهل الوادي مولى؟! يعني: ما وجدت في الأمة من هو مؤهل حتى تدع هذا يتولى هذا الأمر.
فتكلم العامل بالمؤهل الأعظم الذي تأهل هذا الرجل به لنيل هذه المنزلة، فقال كلمات قصيرات موجزات، قال: يا أمير المؤمنين! إنه قارئ لكتاب الله.
فقال عمر رضي الله عنه في تتمة هذا الحديث: أما إني سمعت رسولكم صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يرفع بهذا القرآن أقواماً ويضع به آخرين).
فهذا هو التقدم في شأن الدين والتقدم في شأن الدنيا، فقد ربطهم النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب الله، فمن أراد هذا أو ذاك فطريقه أن يرتبط بكتاب الله حفظاً وتلاوة وتدبراً وعملاً.
ثم كذلك نلمح منهج النبي عليه الصلاة والسلام في ربط الأمة بكل صورة من الصور بكتاب الله، فهذا البخاري يروي لنا قصة فريدة جميلة عجيبة فيها أن امرأة جاءت إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم تعرض نفسها ليتزوجها رسول الله عليه الصلاة والسلام، جاءت تهب نفسها للرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم في مجلس مع أصحابه، وكانت جريئة وصاحبة أيمان، ولم يكن للرسول عليه الصلاة والسلام بها حاجة، فسكت حياءً أن يرد عليها، وطال الصمت، وتأزم الموقف، ودخل الإحراج، فانتهز رجل من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الفرصة، وأراد أن يقتنص الغنيمة الباردة، فقال: يا رسول الله! زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة، وكان متأدباً في سؤاله وطلبه، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (اذهب فالتمس شيئاً -أي: بعض المهر- فذهب ثم عاد فقال: يا رسول الله! لا أجد شيئاً.
قال: التمس ولو خاتماً من حديد.
قال: ولا خاتماً من حديد.
فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ولى الرجل، فقال: ردوه عليَّ.
فلما رجع قال: هل معك شيء من القرآن؟ قال: نعم.
معي سورة كذا وكذا.
فقال: زوجتكها على ما معك من القرآن).