ثم ننتقل إلى نقطة أخرى، وهي المنهج النبوي الذي ربط من خلاله رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة بكتاب الله عز وجل.
فإن المصطفى عليه الصلاة والسلام جعل كل شيء مما يهتم به المسلم ومما تنتفع به نفسه ويرغب في تحصيله كل ذلك جعله مرتبطاً بكتاب الله عز وجل.
ونبدأ أولاً بتلقي المصطفى عليه الصلاة والسلام لهذا القرآن بعد أن انتقل إلى عظمته وإلى رسالته وإلى دوره في الحياة.
لقد كان النبي عليه الصلاة والسلام ينتظر نزول الوحي انتظار الأرض القاحلة للقطر من السماء، ولقد كان يتشوق إلى هذا القرآن ويتوق إليه ويحرص عليه ويبالغ في حفظه ورعايته وصيانته.
ولذلك كان من شدة تلهفه عليه الصلاة والسلام أنه كان يسابق الوحي إذا نزل به جبريل، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يردد وراءه خوفاً من تفلت القرآن؛ حتى نزل قول الله عز وجل: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:16 - 19].
وكذلك جاء قوله عز وجل: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه:114]، فتلقاه عن جبريل بهذا الشغف وتلك المحبة والإقبال، ولقد كان عليه الصلاة والسلام هو قائد الجيوش، وهو حاكم البلاد، وهو الذي يرعى المصالح، وهو الذي يجيب السائلين، وهو الذي يعلم الجاهلين، وهو المنشغل بأمور كثيرة ومع ذلك لم يشغله ذلك عن أداء مهمة عظمى ورسالة كبرى رأى عليه الصلاة والسلام أنها من أوجب واجباته، وأراد أن يورثها لأمته من بعده، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم قام بنفسه بتلقين الصحابة كتاب الله عز وجل وتعليمهم تلاوته، فهذا ابن مسعود رضي الله عنه -كما في صحيح البخاري - يقول: (تلقيت من فيَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة من القرآن).
لم يكتف عليه الصلاة والسلام بهذا التلقي ولا بذاك التعليم، فقد كان حبه للقرآن وتعلقه به أعظم من ذلك، فكما يلهج به لسانه وكما يعلم به إخوانه طلب أن يسمع القرآن منهم، كما صح عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (اقرأ علي القرآن.
فقال ابن مسعود: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: نعم؛ فإني أحب أن سمعه من غيري).
فقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يحب أن تشارك جوارحه كلها في كتاب الله عز وجل، فينطق به لسانه، ويتدبره بعقله، وينفعل به بقلبه، ويسمعه بأذنه، لقد ملك القرآن كل جوارحه وكل مشاعره، فكان عليه الصلاة والسلام في سيرته التي نقلت لنا يعبر لنا ويصور لنا ما ينبغي أن يكون عليه حال المسلم وارتباطه بكتاب الله عز وجل.
ولذلك قرأ عليه ابن مسعود من أول النساء حتى بلغ قول الله عز وجل: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} [النساء:41 - 42] قال: (حسبك حسبك! قال ابن مسعود: فنظرت فإذا عيناه -صلى الله عليه وسلم- تذرفان).
فهكذا كان في حياته صلى الله عليه وسلم، ثم ربط الأمة كلها بهذا النهج القويم، فما هو الذي يرتبط به المسلم في هذه الحياة؟ وما الذي يرجوه المؤمن الذي يفكر في العاقبة؟ إن أهم ما تندفع إليه النفوس المؤمنة هو طلب الأجر والمثوبة من الله عز وجل، وطلب الرفعة والعلو عند الله سبحانه وتعالى، وطلب الجنة ومنازلها العالية.
هذا هو الذي تتوق إليه قلوب المؤمنين، وهذا هو الذي يبذلون من أجله الغالي والرخيص، فأين طريقه؟ وأين سبيله؟ لقد جعل المصطفى عليه الصلاة والسلام الطريق إلى كل ذلك عبر القرآن العظيم.