روى مسلم في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فلما كان العام الأخير اعتكف عشرين صلى الله عليه وسلم) والاعتكاف معروف، وهو سنة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل واعتكف نساؤه من بعده، واعتكف أصحابه رضوان الله عليهم، انقطعوا عن الدنيا لله سبحانه وتعالى، كما قال بعض أهل العلم في تعريف هذا الاعتكاف: إنه قطع العلائق بالخلائق والتفرغ للصلة بالخالق سبحانه وتعالى.
أيام نقتطعها من عامنا كله، عشرة أيام من ثلاثمائة وخمسة وخمسين يوماًَ نجعلها لله عز وجل لنحقق هذه الصلة، ولنرجو الله عز وجل أن يفيض علينا من الخير وأن يحقق لنا ما وعد من الأجر، وليكون لنا ذلك زاداً لنصحح مسيرتنا في هذه الحياة وفق أمر الله وعلى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال سفيان الثوري رحمه الله: أحب إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أن يجتهد المسلم في الطاعات.
أي أن يتهجد فيها، وأن يوقظ أهله إلى الصلاة؛ لأن ذلك أمر مؤكد خاص، فقد ورد فيه حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي ذكرت فيه عائشة صفته.
وكانت امرأة حبيب بن زيد تقول في مثل تلك الليالي: قد ذهب الليل وبين أيدينا طريق بعيد، وزاد قليل، وقوافل الصالحين سارت قدامنا، وبقينا ونحن وحدنا.
ثم كان ذلك النداء الذي يحثنا ويحضنا على أن يكون حظنا من تلك الليالي مختلفاً عن غيرها: يا نائم الليل كم ترقد قم يا حبيبي قد دنا الموعد وخذ من الليل وأوقاته ورداً إذا ما هجع الرقد من نام حتى ينقضي ليله لم يبلغ المنزل أو يجهد قل لذوي الألباب أهل التقى قنطرة العرض لكم موعد وكانت عائشة رضي الله عنها تحرص على ذلك وتبينه، وتبين حال النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الشأن.
قال ابن رجب في فعل النبي صلى الله عليه وسلم واعتكافه والحكمة من هذه السنة: فيه قطع لأشغاله، وتفريغ لباله، وتخلَّ لمناجاة ربه وذكره ودعائه، وكان صلى الله عليه وسلم يحتجر حصيراً فيتخلى فيه عن الناس، فلا يخالطهم ولا يشتغل بهم.
ولهذا ذهب الإمام أحمد إلى أن المعتكف لا يستحب له مخالطة الناس، حتى ولا تعليم علم أو إقراء قرآن؛ لأن الغرض هو أن ينفرد بنفسه لمناجاة ربه.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لطاعته ومرضاته، وأن يمن علينا في هذه العشر بالقيام بحقها وإدراك ليلة القدر ومحو الوزر؛ إنه سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.