تضحية جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وهجرته في سبيل الله

وأما المحطة الثانية: فالتضحية والهجرة، وهي السمة الغالبة على حياة جعفر رضي الله عنه، فقد هاجر ثلاث هجرات لم يهاجرها غيره من الصحابة إلا نفرٌ قليل.

قال ابن عبد البر في الاستيعاب: هاجر الهجرتين إلى الحبشة، وهاجر إلى المدينة المنورة، فحياته كلها كانت هجرةً لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولإقامة الدين والدعوة إليه، ولإقامة شعائره وشرائعه، فهو ممن هاجر إلى الحبشة في الهجرة الأولى، وهاجر إلى الحبشة مع زوجه أسماء بنت عميس رضي الله عنها الهجرة الثانية، وولد له أولاده الثلاثة في الحبشة، وعاش فيها ردحاً من الزمن.

وقال ابن حجر في الإصابة: وعلى يديه أسلم النجاشي ومن تبعه في الحبشة، وذكر روايةً عن ابن مسعود أن جعفر بن أبي طالب كان أمير المهاجرين في الحبشة، وروى ذلك ابن سعد في الطبقات.

وذلك كله يدلنا على أن جعفراً رضي الله عنه كان من أهل الإيمان الراسخ، واليقين العظيم، والتضحية الكبيرة، حيث ترك داره وأرضه وبلاده، وهاجر إلى الحبشة بعد أن أذن بذلك وأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال: (إن بأرض الحبشة ملكاً عادلاً لا يظلم عنده أحد، فالحقوا بأرضه -أو ببلاده-)، فذهب جعفر رضي الله عنه في الفوج الأول الذي لم يكن يتعدى عددهم -كما في بعض روايات السيرة- اثني عشر أو ثمانية عشر ما بين رجل وامرأة، ثم كان كذلك في الفوج الثاني الذي زاد على ثمانين رجلاً وامرأة، وكانت له المواقف العظيمة هناك، وكانت هجرته على هذا النحو، ثم لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم، فسجلت له هجرة إضافية أو هجرة ثالثة، فكان ممن كانت حياته كلها هجرةً وتضحيةً في سبيل الله، وفي سبيل إعلاء كلمة الله عز وجل.

ثم إن أبا موسى الأشعري روى لنا قصة المهاجرين من الحبشة، وكيف قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبر أبو موسى رضي الله عنه أنه خرج ومعه نفرٌ من قومه من بلاده من اليمن، قال: نريد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فقذفت بنا السفينة إلى أرض الحبشة، فوافينا جعفراً وأصحابه، ثم خرجنا معهم جميعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوافينا المدينة في أعقاب خيبر.

وهنا وقعت قصةٌ كذلك تدلنا على مسألة الهجرة وأهميتها وفائدتها، ترويها لنا أسماء بنت عميس، وهي مذكورة في البخاري ومسلم وغيرهما من كتب السنة المشهورة، هذه الرواية فيها: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قدم ودخل على بيته، وعند زوجته امرأةٌ فقال: من هذه؟ قالت: أسماء بنت عميس، فقال عمر رضي الله عنه: ألحبشية -أي: هل هي الحبشية التي جاءت من الحبشة-؟ فقالت: نعم.

فقال الفاروق عمر: سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم.

وكان تفاخر القوم ليس بالأحساب والأنساب، وإنما بالبذل والتضحية في سبيل الله، وبالقرب وبالخدمة والذود والحماية لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

فغضبت أسماء رضي الله عنها من ذلك وحزنت -وكانوا أحرص شيءٍ على الخير والفضل في هذا الدين- فقالت: كلا.

والله! كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يطعم جائعكم، ويعلم جاهلكم، وكنا في دار البعداء والبغضاء في الحبشة، وذلك في الله وفي رسوله، والله لا أطعم طعاماً ولا أشرب شراباً حتى أذكر ما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن كنا نؤذى ونخاف.

فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له ذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: (ليس بأحق بي منكم، له ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم -يا أهل السفينة- هجرتان) فأثنى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم لفضل الهجرة وترك الديار والأهل والعيش في الغربة حفاظاً على الدين وحرصاً على إقامته، فقال: (له ولأصحابه هجرةٌ، ولكم يا أهل السفينة! هجرتان)، فقالت أسماء رضي الله عنها: (فجعل أهل الحبشة يأتون إليَّ أرسالاً؛ يسألونني عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ لأنهم كانوا أفرح الناس بالخير.

وهذا يدلنا على فضل الهجرة عموماً، والهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خصوصاً، وقد نال جعفر بن أبي طالب قصب السبق في كل هذه الهجرات التي كانت في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015