ولـ عمر منهجية فريدة متميزة لعلنا أن نشير إلى بعض ملامحها، وأن نقتبس بعض أنوارها في هذه الوقفة الوجيزة التي تقصر عن الإشارة إلى المزايا في عدالة عمر فضلاً عن الإحاطة بها: أولاً: جعل عمر العدالة شعاراً وعنواناً معلناً لكل الناس، ظاهراً في كل المحافل، منصوباً عليهم في كل أمر وفي كل حكم وفي كل قضاء، وهكذا أراد أن يقول للناس: إن العدل حق لكم، وأن العدل أساس في حياتكم.
فنجد عمر رضي الله عنه أنبأ عن ذلك في مقالة بدأ فيها بنفسه، وضرب المثل من شخصه، فقال: (أيما عامل ظلم أحداً وبلغتني مظلمته فلم أغيرها فأنا الذي ظلمته)، إنه يريد أن يقول: إن العدالة أمر لابد أن يكون عاماً شاملاً واسعاً معلناً، وكذلك نجده يكتب إلى ولاته وعماله أن يوافوه في موسم الحج؛ ليلتقي بهم، ويسألهم عن أحوال الرعية، ويسمع ما يقال عنهم من الشكاوى، ويواجههم بها، فلما اجتمع مرة في موسم من المواسم جمع من ولاته وأمرائه قام في الناس رضي الله عنه وأرضاه وقال: (أيها الناس! والله ما أبعث إليكم عمالي ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، ولكني أبعثهم إليكم ليعلموكم دينكم وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم، فمن فعل به سوى ذلك فليرفعه إلي، فوالذي نفسي بيده! لأقصنه منه أمام الأمة كلها)، لقد أعلن أمام الأمة كلها ولاة ورعية، ضعفاء وأقوياء، صغاراً وكباراً، أغنياء وفقراء، أن العدالة شعار مرفوع ينبغي أن يعم الناس جميعاً.
ولكن عمر لم يكتف بذلك، بل جعل العدل غاية وأساساً لا مجرد لافتة ترفع، ولا كلمات تقال، وإنما أراد أن يجعله محوراً تنجذب إليه كل الأمور، وتنطلق منه كل الأحكام، وتعود إليه كل الولايات، وترتبط به جميع أمور الحياة التي كان يسيرها عمر رضي الله عنه من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنجده لا يتجاوز العدل مطلقاً، ولا يغفل عنه أبداً، ويأمر أن يكون هو الذي يكون المحور الأساسي في شتى الأمور التي تدار في حياة الأمة الإسلامية، فها هو يكتب إلى أبي موسى رضي الله عنه أحد ولاته يبين أن العدل ينبغي أن يكون الغاية، فإن فات في مرحلة فلا يفوتن في الأخرى، وإن وقع خطأ فلا ينبغي أن يسكت عنه، بل ينبغي أن يصحح، فكتب إليه قائلاً: (لا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس فراجعت فيه نفسك وهديت فيه إلى رشدك أن ترجع إلى الحق؛ فإن الحق قديم لا يبطله شيء، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل)، وتأمل قول عمر: (فإن الحق قديم لا يبطله شيء)؛ لأن الحق مرتبط بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن وقع خطأ في اجتهاد فليصحح، فإن كانت غفلة فلتتبعها يقظة، وينبغي أن يكون عند الإنسان العود إلى العدل والإنصاف، وإلى إحقاق الحق وإزهاق الباطل، ولذلك أراد عمر أن يرسخ المعاني الإيمانية في الآيات القرآنية، كقوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء:58].
ويبين عمر أيضاً في توضيح غاية العدل وأساسه أنه لابد فيه من التجرد والتنزه عن الأهواء، وعدم التأثر بأية عوامل خارجية من قرابة أو صحبة أو معرفة أو علو منزلة، ولا يرقب الوالي في قضائه وفي حكمه وفي قسمه به بين الناس إلا وجه الله عز وجل، ولا يخاف إلا عقاب الله عز وجل، فكان عمر إذا جاءه من يتقاضى جثا رضي الله عنه وأرضاه على ركبتيه، وقال: (اللهم أعني عليهما -أي: على المتخاصمين- فإن كل واحد منهما يريدني عن ديني)، أي: أنه يريد أن أقضي له على حساب ديني وعلى حساب أمانتي وعلى حساب التزامي كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (وما أبالي إذا اختصم إلي رجلان لأيهما كان الحق)، أي: وإن كان للضعيف أو للفقير أو للوضيع، فالحق هو الذي يحكم ولا يحكم عليه، وقال: (ليس بيني وبين أحد من الناس هوادة)، أي: في الحق وإقامة العدل.