عندما كنت أتصفح بعض هذه النماذج رأيت نموذجاً أرى أنه النموذج الذي يعد قمة شامخةً من قمم الإسلام السامقة، تحنو أمامه كل الهامات التي ترتفع غروراً، وكل العظمة التي تنتفخ وليس لها أصل ولا فصل، وعندما نتأمل في هذه السيرة وفي تلك الشخصية نجد كثيراً من الحنين والشوق إليها؛ لما ضاع من معانيها ومعالمها في حياتنا.
إنها معالم السيرة العمرية؛ سيرة الفاروق رضي الله عنه، ثاني خلفاء هذه الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، نتحدث دائماً ويتردد في آذاننا نبأ العدل العمري، وقصص الحزم العمري، وفصل القول العمري، ونعرف قصة الدرة العمرية، ونعرف العسس بالليل في سيرة عمر، وهكذا أموراً وأموراً كثيرة أخرى، فعندما طالعت بعض هذه المواقف رأيت أنني أنشد إليها شداً، وأنجذب إليها جذباً؛ لأنه بقدر ما يكون فيك من فراغ وضعف بقدر ما تنجذب إلى القوي، ونحن اليوم تغيب عنا كثير من معالم السيرة العمرية في العدل والحزم والجد والمسئولية والورع والتواضع والقوة في الدين؛ فأحببت أن يكون لنا من السيرة العمرية ذكرى نحيي بها ما مات من هذه المعالم والمعاني في عقولنا وقلوبنا، ونتذكرها لتكون واقعاً حياً في حياتنا، وعندما نقول: عمر رضي الله عنه، وعندما نذكر الفاروق رضي الله عنه فليس لنا أن نتحدث عنه بألسنتنا، وليس عندنا من قدرة مهما رأينا من عظمته ومهما رأينا من سبقه وقوته ونصرته لدين الله ليس في أساليبنا ولا في بلاغتنا ولا في إمكاننا أن نصف عمر بمثل ما وصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبمثل ما نطق به الصديق أبو بكر رضي الله عنه، وبمثل ما قال عثمان وعلي وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إننا في الحقيقة عندما نتحدث عن عمر بألسنتنا نجهل قدر عمر، ونغض من مكانته، وإذا أردنا أن نعرفه أو أن نهيئ القلوب لتلقي سيرته أو أن نحيي في نفوسنا ما مات من هذه المعاني العزيزة، فلنستمع إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم في عمر المبشر بالجنة، ففي الحديث الصحيح عند البخاري أنه عليه الصلاة والسلام قال: (بينما أنا نائم رأيتني في الجنة، فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر، فقلت: لمن هذا القصر؟ فقيل: لـ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فأسرعت بعيداً منه، وتذكرت غيرتك يا عمر! فبكى عمر رضي الله عنه، وقال: أمنك أغار يا رسول الله؟!)، إنها صورة تمثل لنا تلك الشخصية في وصف النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يعبر عن هيبته من غيرة عمر ومن حياء عمر ومن قوة عمر، وذلك في المنام في رؤيا يرى فيها قصراً لـ عمر في الجنة تتوضأ إلى جانبه امرأة.
وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عنده في يوم من الأيام نساء من قريش -ذكر بعض أهل الحديث أنهن من أزواجه- وكن يتحدثن إليه، وتعلو أصواتهن بين يديه، فدخل عمر رضي الله عنه، فانقمعن، وابتدرن إلى حجبهن فقال: يا عدوات أنفسكن أتهبنني ولا تهبن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقلن: نعم؛ فإنك فظ غليظ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ليس كذلك -وما كانت فيه فظاظة، ولكنه حزم، وما كانت فيه غلظة، ولكنها قوة وهيبة- فلما رأى ذلك النبي الكريم صلى الله عليه وسلم تبسم وضحك عليه الصلاة والسلام، وقال: (إيهٍ يا ابن الخطاب! والذي نفسي بيده! ما لقيك الشيطان قد سلكت فجاً قط إلا سلك فجاً غيره).
عجباً لهذه القوة، ولتلك الهيبة، ولذلك الإيمان، ولتلك العظمة التي فرق منها إبليس الذي أقسم بأن يغوي بني آدم، وأن يقعد لهم بكل صراط، وأن يقف لهم على كل ناصية، وأن يكون مقدماً لهم في كل ميدان من ميادين الشر، فإذا به ينقمع عن عمر، وإذا به يخشى الفاروق، وإذا به يفرق من الفاروق رضي الله عنه، هكذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم.
وجاء أن عمر قال: من يحدثنا حديث الفتن؟ فقال حذيفة: أنا يا أمير المؤمنين! فقال: إنك والله! لجريء، قال حذيفة: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر فتنة الرجل في أهله وماله وأنها يكفرها الصلاة، قال: لست عن هذا أنشدك، وإنما أسألك عن الفتن التي تموج كموج البحر، فقال حذيفة: يا أمير المؤمنين! إن بينك وبينها باباً -أي: ليست في زمانك ولا في عهدك، ولا يمكن أن ترفع رأسها وبيدك سيفك ودرتك، ولا يمكن أن يظهر صوتها وصوتك بالحق جاهر- فقال عمر رضي الله عنه: أيفتح أم يكسر يا حذيفة؟ قال: بل يكسر يا أمير المؤمنين! قال: فإذاً لا يغلق، فقيل لـ حذيفة: أكان عمر يعلم ما الباب؟ فقال: نعم، فهبنا أن نسأله، حتى سأله بعض منا خفية، فقال: الباب عمر.
رضي الله عنه وأرضاه).
لقد كان يفر منه الشيطان، وتفر منه الفتنة، وينخنس الظلم، ويتوارى الضعف، فكان رضي الله عنه وأرضاه مجمعاً لخصال من الخير عظيمة.
وهذا أنس رضي الله عنه -كما في مسند الإمام أحمد - يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر رضي الله عنه، وأشدهم في دين الله عمر).
عمر ذاك الذي لا تأخذه في الله لومة لائم، ذاك الذي لا تعرف المداهنة والنفاق إليه سبيلاً، ذاك الذي لا تعرف الشفاعة بغير الحق إليه طريقاً، فهل عرفنا من هو عمر بهذه الأقوال اليسيرة من بعض مناقبه الكثيرة رضي الله عنه؟ إننا عندما نتحدث عن عمر نتحدث عن قول علي رضي الله عنه في مفهوم حديث الفتنة الذي ذكرته، فإنه قال: (إن موت عمر ثلمة في الإسلام لا تُسد إلى يوم القيامة)، ولقد كان علي رضي الله عنه صادقاً مصدقاً في لهجته رضي الله عنه وأرضاه.
وهاهو علي رضي الله عنه -كما في مسند الإمام أحمد - يقول على ملأ من أصحابه، في الزمن الذي ظهرت فيه الفتن، وغلا في علي رضي الله عنه من غلا، فأراد أن يرد الناس إلى الجادة، وأن يعلمهم الصواب، وأن يعرفهم مقادير الرجال، فصاح في صحبه: (ألا أخبركم بخير هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: بلى، قال: أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه.
ثم صاح مرة أخرى: ألا أخبركم بخير هذه الأمة بعد أبي بكر رضي الله عنه؟ قالوا: بلى، قال: عمر بن الخطاب رضي الله عنه)، فليمت بغيظه كل شانئ لـ عمر رضي الله عنه.
وفي بعض الروايات: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوماً وعن يمنيه أبو بكر وعن يساره عمر، ثم قال: هكذا نبعث يوم القيامة).
ويوم اهتز أحد قال: (اسكن أحد؛ فما فوقك إلا نبي وشهيد وصديق)، هكذا كان عمر رضي الله عنه.
وهذه بعض الملامح والمعالم التي تهيئنا بأن نطيل الحديث في سيرة عمر، وأن نستخرج المخبوء من الكنوز المشعة المضيئة والمعاني العظيمة والدروس الكثيرة في سيرة عمر رضي الله عنه.