ثالث هذه الآثار: وهو الذي نختم به حديثنا، هو الأمر العظيم في يقظة الضمير ومراقبة الله عز وجل: فالمراقبة هي التي تجعل الإنسان في مشهده ومغيبه في ظاهره وباطنه في سره وعلانيته، على مقتضى ما يحب الله سبحانه وتعالى، هذه اليقظة الإيمانية هي التي حكمت قلوب المؤمنين فعرف كل منهم الحق الذي له فلم يتجاوزه، وعرف كل منهم الواجب الذي عليه فلم يقصر فيه، فما وجد اعتداء، ولا وجدت خيانة، ولا وجدت مراوغات، ولا وجدت صور أخرى من صور فساد الحياة؛ لأن الناس كانوا يراقبون الله عز وجل، فيصدقون إذا صدقوا لأجل الله، ويحرصون على الإتقان في أعمالهم لوجه الله، وكل حياتهم فيها استشعار لمراقبة الله عز وجل، بل ربما كان بعضهم إذا كان خالياً بنفسه منفرداً لوحده أكثر احتياطاً وشدة مع نفسه، وتربية لها وتذليلاً لها بين يدي الله منه أمام الناس، وكان كل منهم يستيقن بذلك يقيناً ظاهراً واضحاً بيناً يملك عليه نفسه، والأمثلة أيضاً في ذلك كثيرة؛ وكما قال القائل في هذا الشأن: ومهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تعلم وكذلك سئل بعض السلف عن غض البصر، كيف الطريق إليه؟ فقال: علمك بأن نظر الله إليك أسبق منك من نظرك إلى ما حرم عليك، يعني: أن تعلم وأن توقن أن الله مطلع عليك، وناظر إليك قبل أن تنظر إلى ما حرم الله عز وجل عليك.
وهكذا كان هذا الإيمان مملكة كاملة تحكم ضمير المؤمن فلا يتجاوز حداً من حدود الله، ولا يرتكب شيئاً من معاصي الله إلا غفلة أو سنة ثم يعود، وهذا من طبيعة الفطرة الإنسانية البشرية، لكن هذه اليقظة الإيمانية هي التي أوجدت الأمثلة الرائعة الرائدة في حياة الأمة الإسلامية، كما ورد في بعض كتب السير والتراجم: أن أبا بكر رضي الله عنه اتخذ عمر قاضياً يقضي بين الناس إذا اختلفوا، فما أتاه أحد، ولا اختلف عنده أحد، ولا احتكم إليه أحد، وقال عمر: (ما حاجتي إلى قوم عرف كل منهم الذي عليه فأداه، وعرف الذي له فلم يتجاوزه).
وهكذا نعلم قصة المسلم من جيش القادسية، رجل من غبراء الناس لم يذكر له اسم، ولا عرف بميزة، أرسله سعد ليبشر عمر بفتح القادسية، وأرسل معه ما أخذ من إيوان كسرى ملك الفرس، وماذا كان فيه؟ كان فيه التاج والذهب واللؤلؤ والجوهر، وأشياء مما لم تكن تخطر على بال أولئك المسلمين الذين عاشوا حياة شظف وبادية ليس فيها شيء من هذا الترف.
فجاء هذا المسلم البسيط من أقصى شمال الجزيرة إلى المدينة وعنده هذه الثروة العظيمة! لم تحص عليه، ولم تدرج عليه، ولم يوقع باستلامها، ولم يدخل في بوابات لتفتش جيوبه، وإنما سلمت له هكذا، ومضى بها في هذا الطريق الطويل، وقدم بها على عمر رضي الله عنه فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين! إن سعداً يبلغك السلام، ويبشرك بنصر الإسلام والمسلمين، وهذا ما في إيوان كسرى.
فنظر عمر إلى هذا فاستعظمه واستكثره، ثم بكى وقال: (إن قوماً أدوا هذا لأمناء، فقيل: لقد عففت فعفوا ولو رتعت لرتعوا).
هذا رجل من عامة الناس ليس مشهوراً، ليس مذكوراً، ليس معروفاً، فهذا نموذج لمن كان الإيمان يحكم حياته ويقوم مراقبته في كل شأن من شئون الحياة، وهكذا تجد أمثلة كثيرة ليس هذا هو مقام ذكرها، وإنما أردت أن أبين أن هذه الآثار الثلاثة من أعظم الآثار التي تميز إيمان المؤمن، وتمحصه وتبين حقيقة موقفه.