ولعلي أمضي بكم إلى ساحة أخرى أريد منها أن أؤكد أن هذا المعنى مهم ومعترف به حتى عند غير المسلمين من العقلاء والحكماء؛ لأن بعضاً من أبناء جلدتنا قد التوت أعناقهم فلا يرون إلا جهة الغرب، ولا يرون إلا المجتمعات المتحضرة كما يقولون، وربما لا تكاد آذانهم تصغي أو تسمع إلا لقول أولئك ولا ترى النموذج والقدوة إلا في أفعالهم وأحوالهم.
أما وقد أصبح ذلك حال بعضهم فلا حرج أن ننقل لهم أقوال القوم وأحوالهم، لنريهم بعض ما يعيدهم إلى رشدهم وصوابهم، هذه كلمات ومواقف ينبغي أن نلتفت إليها، وسأذكر من بعد منهجاً عظيماً نحتاج إليه وإلى التذكير به.
أول ذلك ما ذكرته زوجة لأحد رواد الفضاء الأمريكيين السابقين وقد كانت ربة منزل، ليست موظفة ولا عاملة، وإنما مهنتها كما نكتب في مهن بعض أزواجنا ربة بيت، وبعض نسائنا اليوم تطأطئ رأسها خجلاً إن سئلت ما هو عملك؟ وكأن هذه المهمة أصبحت شيئاً يستحيا منه، أو مرتبة لا تريد المرأة أن تكون فيها، مع أنها أسمى المراتب وأعلاها، وأعظم الوظائف وأكثرها أهمية وجدوى، حتى من الناحية الاقتصادية تقول هذه المرأة الغربية: أنا مسرورة جداً ببقائي في البيت إلى جانب زوجي وأطفالي، حتى في الأيام العصيبة التي كنا فيها في حاجة إلى المال لم يطلب مني زوجي أن أعمل، وكانت فلسفته أننا نستطيع أن نوفر حاجاتنا الضرورية إن قل المال، لا تأكل هذا النوع وكل هذا، ولا تركب هذه السيارة واركب هذه، يمكن تدبير الأمور قالت: ولكننا لا نستطيع أن نربي أبناءنا إذا أفلت الزمام من يدنا.
إن لم يكن في بيتك أم مربية فما هو البديل؟ خادمة! هي لم تحمل هذا الطفل في رحمها، ولم تعانِ في ولادته، ولم تكن يوماً مرضعته، ولا يهمها شأنه، ولا يعنيها مستقبله، ولا تنتمي إلى مجتمعه، بل ربما لا تنتمي إلى دينه ومعتقده.
أو ما هو الحل الآخر؟ أن يسرح الأبناء إلى مؤسسات هنا أو هناك كما هي في مجتمعات الغرب، تكون كما يقول الرافعي رحمه الله للعشرين منهم أم واحدة، هذه موظفة ليست أماً، فلا تعطيهم شيئاً من معاني الأمومة فضلاً عن أن تمنحهم شيئاً من معالم التربية.
البدائل قضية مهمة، فقد نستطيع أن نسد ثغرات هنا أو هناك، الأعمال والوظائف فيها رجال ونساء، إن تخلينا أو اضطررنا إلى التخلي عن امرأة في مكان ما فلسنا عاجزين عن أن نأتي بغيرها من الرجال أو النساء بحسب الحال، لكنك إن لم تجد في بيتك أماً مربية هل يمكن أن تكون أنت أيها الرجل أماً مربية، خاصة في سن الصغر؟ هل يستطيع رجل واحد أن يحتمل البقاء مع طفل في الثانية أو الثالثة من عمره أكثر من ساعة أو ساعتين دون أن يدعو بالويل والثبور وعظائم الأمور ويصيح ويضيق، فإنه لم يخلق لذلك، ولم يكن في نفسه وفكره وطبيعته لذلك، بينما هو يستطيع أن يحتمل الصعاب، وأن يرابط الأوقات الطويلة في عمله دون كلل أو ملل؛ لأن الله جل وعلا قد ركبه وخلقه على هيئة تصلح لذلك.
ومن هنا أيضاً نقول من مقالات بعض القوم: المرأة التي تشتغل خارج بيتها تؤدي عمل عامل بسيط، ولكنها لا تؤدي عمل امرأة، فإن الفطرة التي فطر الله الناس عليها قد جعلها في هذه المرأة مناسبة لهذه المهمة، أولاً في الأصل الخلقي الطبعي هل رأيتم في حياتكم رجلاً يحمل ويلد؟ وإن كنا نقرأ أحياناً من الطرائف والعجائب والغرائب ما يكتب في بعض الصحف مثل هذا، ولست واقفاً عنده، لكنني أقول: كل الناس حتى الذين يرتقون إلى أعلى الدرجات في المطالبة بالمساواة لم نسمع عن أحد منهم أنه طالب أن يساوى الرجل بالمرأة في الحمل والوضع والولادة، لماذا؟ لو كان من الناحية النظرية لدعوا إلى ذلك وطالبوا به، لكن هذا محال لطبيعة الخلقة، فإذا سلموا في هذا فلماذا لا يسلمون في طبيعة الفطرة والخلقة فيما وراء ذلك؟! يقول أحد الغربيين أيضاً: إن الرجل يبحث عن المرأة تعمر البيت بوجودها وحركتها وعملها، وليست المرأة التي تملأ المعامل والمصانع والمكاتب والشوارع، وتخلف وراءها بيتاً يفترسه الضياع والفساد بوسائله المباشرة وغير المباشرة.