ثانياً: القوة والعزة: فلسنا نريد لهذه الأحزان أن تنال من عزيمتنا، ولا أن توهن من قوتنا، ولا أن تضعف من عزتنا، كلا، نريدها وقوداً يتفجر قوة، ويتطاير عزة، نريد أن نؤكد في كل الظروف والأحوال، بل في ظروف المحن والفتن على وجه الخصوص أننا نستعلي بإيماننا، وأننا نتشرف ونفخر بإسلامنا، وأننا نرفع رءوسنا، وأننا سادة الدنيا، وأننا معلمو البشرية، وأننا قادة الإنسانية، وأننا دعاة الحرية.
نحن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، نحن الأمة التي اختارها الله عز وجل لتكون الأمة الباقية إلى قيام الساعة، ولتكون الأمة الشاهدة على الأمم يوم القيامة قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110]، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143].
ما بالنا نفوسنا فيها حزن، وقلوبنا فيها ذل، وأحوالنا في تقهقر؟ إذا دام الأمر كذلك فإنه لا يرجى أن يتولد لنا عمل، ولا أن تكون لنا حركة، لابد أن نستحضر قول الحق جل وعلا: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139]، أقدامنا فوق كل الرءوس وإن علت وشمخت بقوتها المادية؛ فإن قوتنا الإيمانية أعظم، وإن جولتنا أوسع وأشمل، وإن نصرنا عليهم مؤزر مؤكد، ليس في ذلك أدنى شك لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
ينبغي أن ندرك ذلك، وأن نستحضر موقف ربعي بن عامر، وكلكم يعرفه، وقد قلناه وكررناه؛ لأنه موقف يدل على ما ينبغي أن يعمر قلوبنا ونفوسنا، يوم دخل على أبهة الملك عند رستم، وكان قائداً عظيماً من قادة الفرس في بهرج الدنيا، وزخرف الحضارة، وقوة الجند، وهيبة الملك، فهل لفت نظره شيء من ذلك؟ هل أضعف شيء من ذلك قوته وعزيمته؟ هل نال من فخره وعزته؟ دخل يخرق الطنافس برمحه، ويسير إلى أن يجلس على سرير ملكه، ثم يخاطبه عندما سأله ذلك
Q ما الذي جاء بكم؟ فقال بعزة المؤمن: (جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة)! لله درك من نموذج للعزة ووضوح الرؤية نفتقده ونفتقر إليه، فكن مسلماً قوياً عزيزا.
فإنك لا تلين لهم جنابا وإنك لا تقيم لهم حساباً ولا تبدي لهم قربىً وزلفى ولا تهدي لشيبهم خضابا وغيرك ينسج الألفاظ عهراً يدغدغ في عهارتها الرغابا وغيرك لا يجيد الرقص إلا على أوتارهم ولها استجابا ورأسك يا أمير القوم قاس ومن قبل المشيب أراه شابا لأنك مسلم ستظل حرباً على الأشرار ترهقهم عذاباً تذكروا وصيحوا دائماً لأن الإيمان أعلى وأجل، ويوم قام أبو سفيان بعد غزوة أحد، وقد رأى شيئاً من نشوة انتصار عابر، يصيح وينادي: أين محمد؟ أين أبو بكر؟ أين عمر؟ ويقول الرسول: لا تجيبوه.
حكمة وحيطة، فلما قال: اعل هبل.
أراد أن يفتخر بعقيدته ويعلي جاهليته، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: أجيبوه.
فانتدب الفاروق عمر، فلما قال أبو سفيان: اعل هبل.
قال: الله أعلى وأجل.
فقال: يوم بيوم بدر.
قال: لا سواء، قتلاكم في النار وقتلانا في الجنة.
يبقى راشد العقل، قوي العزم، رابط الجأش، لا تنال الأحداث من قوته وعزته، نسأل الله عز وجل أن يقوي قلوبنا، وأن يعز نفوسنا، وأن يربطنا به، وأن يجعلنا أوثق بما عنده مما في أيدينا، وألا يجعل لنا إلى سواه حاجة.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون: لابد لنا أن نستحضر هذه المعاني، وأن نتواصى بها، ولقد كنت أريد أيضاً أن أضيف إلى حديثي هذا الجانب العملي، وهو جانب فيه كثير من الخطوات، وكثير من الميادين، ولكن المقام يقصر عنه، وبعض إخواننا قد يرى أن طول الحديث يتعبه أو يرهقه، مع أني لست ممن يريد طول الحديث شهوة في الكلام، وأيضاً: نحن نقضي من الأوقات في كثير من الأمور التافهة ما الله سبحانه وتعالى به عليم، ثم لا يكون لنا اجتهاد ولا صبر أن نتذاكر وأن نتحدث، وأن تطول مراجعتنا وأخذنا وردنا في حالنا وبلائنا، وفيما نستعين الله سبحانه وتعالى به في مواجهة أعدائنا.
لعلنا -أيها الإخوة الأحبة- أن نكثر من التجائنا إلى الله عز وجل، ودعائنا إليه سبحانه وتعالى، وسأجعل حديث الجانب العملي في لقائنا وجمعتنا القادمة إن مد الله في الأعمار.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرد كيد الكائدين، وأن يدفع شرور المعتدين.
اللهم سلط على الغزاة المعتدين من الصليبين الحاقدين، واليهود الغاصبين رجزك وغضبك وبأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم إنهم قد طغوا في البلاد، وأكثروا فيها الفساد؛ فصب اللهم عليهم سوط عذاب، وكن لهم يا ربنا بالمرصاد، اللهم لا تبلغهم غاية، ولا ترفع لهم راية، واجعلهم لمن خلفهم آية.
اللهم لا تجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً، ولا تجعل من المؤمنين للكافرين ولياً ولا ظهيراً، اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم، ونعوذ بك اللهم من شرورهم، اللهم إنهم قد طغوا وبغوا، وتجبروا وتكبروا، وحاربوا الإسلام والمسلمين، واستحلوا الحرمات، وسفكوا الدم الحرام؛ اللهم فانتقم منهم يا قوي يا عزيز يا منتقم يا جبار! يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء! اللهم سلط عليهم جند السماء، وزلزل الأرض من تحت أقدامهم، اللهم اقذف الرعب في قلوبهم، واجعل بأسهم بينهم، اللهم أعطب أسلحتهم، وأسقط طائراتهم، وأغرق بارجاتهم، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك.
يا ذا الجلال والإكرام! يا من أمره بين الكاف والنون! سدت الأبواب إلا بابك، وانقطعت الأسباب إلا أسبابك، وليس لها من دونك كاشفة، اكشف اللهم البلاء عن الأمة، وارفع الغمة، والطف بنا فيما يجري به القضاء يا رب الأرض والسماء! اللهم إنك على كل شيء قدير، وأنت بكل شيء عليم، إليك الملتجأ، وأنت المرتجى، نسألك اللهم أن تقضي لأمة الإسلام والمسلمين خيراً، وأن تجعل لهم من وراء هذه المصائب والرزايا والبلايا خيراً، وأن تكتب لهم فيها نصراً وعزاً يا ذا الجلال والإكرام! اللهم رحمتك بالشيوخ الركع، والأطفال الرضع، والصبية اليتامى، والنسوة الثكالى.
اللهم ارحم إخواننا في العراق وفي فلسطين، وفي كشمير وفي الشيشان، وفي أفغانستان وفي كل مكان.
اللهم انصر المستضعفين، اللهم انتصر للمظلومين، اللهم إنا نسألك أن تمسح عبرتهم، وأن تسكن لوعتهم، وأن تؤمن روعتهم، وأن تقيل عثرتهم، وأن تفرج همهم، وأن تنفس كربهم، وأن تعجل فرجهم، وأن تفك حصارهم، وأن تقهر عدوهم، وأن تزيد إيمانهم، وأن تعظم يقينهم، وأن تجعل لنا ولهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل فتنة عصمة، ومن كل بلاء عافية يا سميع الدعاء! اللهم اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
اللهم أخرجنا من الظلمات إلى النور، واجعلنا على بصيرة وبينة من أمرنا، اللهم لا تفتنا ولا تفتن بنا، وإذا قضيت فتنة فاقبضنا إليك غير فاتنين ولا مفتونين.
اللهم ثبت المجاهدين، اللهم أمدهم بقوتك وحولك ونصرك وعزك وتأييدك يا رب العالمين! اللهم إنا نسألك أن تجعل لنا في هذه الأيام المباركة عملاً صالحاً ترضى به عنا، وترفع به البلاء عنا، وتنصر به إخواننا، نسألك اللهم أن تسخرنا في نصرة دينك، وأن تستخدمنا في طاعتك، وأن تجعلنا ستاراً لقدرك في نصر الإسلام والمسلمين.
اللهم اجعل هذا البلد آمنا مطمئناً رخاء وسائر بلاد المسلمين، وأصلح اللهم أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألك أن توفق ولي أمرنا لهداك، وأن تجعل عمله في رضاك.
اللهم الطف بنا فيما تجري به المقادير يا رب العالمين.
عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر العلي والمقام الجلي: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
وأقم الصلاة! إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.