أنتقل في آخر الأمر إلى الممارسات والصور العملية لهذا الانحراف للكلمة عن مسارها الصحيح.
فلعلي أقسِّم هذه الصور إلى قسمين: صور إسلامية، وصور غير إسلامية، والصور غير الإسلامية تصدر ممن لا ينصرون الدين ولا يشهرون رايته، وتجد ذلك في صور شتى: أولاً: الصمت عن الحق، ولذلك الساكت عن الحق شيطان أخرس، فأنت تجد كثيراً من الصحف والمجلات تنادي زوراً وبهتاناً بحقوق الإنسان وبالعدالة وبالديمقراطية وغير ذلك، بينما تغض الطرف وتكسر الأقلام وتكمم الأفواه عندما يكون هناك أمر متعلق بالمسلمين، فلتجر الدماء سيولاً ولتزهق الأرواح بالآلاف في البوسنة والهرسك ولا شيء في ذلك، ولتنتهك حقوق الدعاة والعلماء في كثير من بلاد الإسلام، ومع ذلك تصدر الصحف في بلاد المسلمين صباح مساء ليس فيها حتى إشارة، وإنما تجد فيها إثارة وتعدياً واستعداءً وتهييجاً للعقول وصرفها عن إدراك مثل هذه المخاطر، والأمر في هذا بين واضح، وفي المقابل فتجد أن إذاعات الكفر أحياناً تخبر بكثير من الوقائع والفضائع التي تحصل للمسلمين، وحسب ذلك بعداً للكلمة الحرة الصادقة، وحسبه أيضاً إهانة للكلمة التي لا تستطيع أن تكون عادلة فتذكر الأمر في كلا الأمرين.
ثانياً: التشويه لصورة المسلمين والدعاة، بل لصورة الإسلام نفسه، فلم تعد اليوم حملات الكلمات الجائرة مقصورة على من يسمونهم الأصوليين أو المتطرفين أو الإرهابيين، بل صارت تتناول شرائع الإسلام وأحكامه، بل تتناول أعلامه التاريخيين من السلف رضوان الله عليهم تندراً بهم واستهزاء، بل -عياذاً بالله- تجد كثيراً من المجلات التي تنطق بألسنتنا قد تناولت شخص الرسول صلى الله عليه وسلم ببعض التهكم والسخرية، بما يكون صاحبه إن اعتقده كافراً لا شك في كفره، هذه الصورة التي نسمعها ونقرؤها تجدها قد غلبت على كثير من الكلمات المسموعة والمقروءة إلا ما رحم الله عز وجل، وإذا بحثت عن الكلمة الصادقة في ركام هذه الكلمات الكاذبة فلا تجدها، والله المستعان.
ثالثاً: الترويج للفسق والفجور، والدعوة إلى الشهوات والملذات الآثمة، فأنت ترى سيلاً من الكلام والترويج للفن بألفاظ فجة جارحة للحياء العام، ومع ذلك تنشر مع الصور ومع غيرها، وتجعل الكلمة مسخرة للدعوة للرذيلة نسأل الله عز وجل السلامة، وتجد القصة التي تدعو إلى الآثام وإلى الحب والغرام والهيام، وتجد القصيدة الماجنة المفسدة، وتجد الأغنية بما فيها من كلمات وميوعة.
إذاً لم تعد في هذه الكلمات إلا ممارسات غير إسلامية تدعو إلى مثل هذا الأمر.
رابعاً: التشتيت في الفراغ.
بمعنى أن الكلمة وإن لم تمارس ذلك الانحراف لكنها لا تقدم شيئاً نافعاً، وإنما تذكر لنا خبراً عن أطول (سندويتش) في العالم، وعن ذلك الذي أطال شاربه حتى صار طوله كذا سنتيمتراً، وأخباراً تافهة ومعلومات سخيفة، وتشويشاً من هنا وهناك، حتى لا يمكن أن تنتفع بكلمة، فربما تنقل الكتاب كاملاً أحياناً -سيما الكتب الحديثة التي ذكر الطنطاوي أنها مشتقة من الحدث الذي يجب الوضوء أو الغسل منه- فتجد كلاماً فراغاً وهذراً لاغياً يفسد القلوب ويفسد الأفكار، ويضيع الأوقات ويحجب الناس عن أن يقضوا وقتهم في الكلمة النافعة الصادقة.