إذا وقفنا مع بعض النصوص القرآنية والأحاديث النبوية نجد نصوصاً كثيرةً تنبه وتؤكد على تلك الأهمية، وتشير إلى الخطورة وعمق الآثار، كما تنبه إلى أبواب الخير وتحذر من أبواب الشر، وليس ذلك فحسب، بل ستجد في كلام الصحابة والسلف والعلماء، بل في كلام الحكماء، بل في الأمثلة والأشعار كلاماً طويلاً كثيراً في شأن الكلمة واللسان، بسبب تلك الأهمية والخصائص التي أشرت إلى بعض منها، فأنت تعلم قول الله جل وعلا: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا} [النساء:148] حتى ذكر السوء لا يقال؛ لأن فيه إشاعة للفاحشة وتسهيلاً لها، وترويجاً لذلك السوء أو نشراً لذلك الظلم، أو تهويناً لأمر ما يخبر عنه ويشيع ذكره، ولذلك ذم الله عز وجل الذي يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا وتوعدهم بالعذاب، ونهى الله عز وجل عن الاتهام للناس بالوقوع في الزنا ما لم يكن هناك بينة من شهود أربعة يشهدون شهادة واضحة صريحة لا تورية فيها ولا تلميح؛ لأن مجرد ذكر هذا القول يجعل الكلمة تشهر وتروج، ثم يروج من ورائها ما تتضمنه من ذكر الفواحش وتسهيلها على الناس، ولذلك يقول الله عز وجل أيضاً: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:16 - 18] بدأ بذكر الوسواس الذي يجول في الخاطر، ثم حذر الله عز وجل بما أعده من الأسباب الخفية والقدرة الشاملة التي لا تدع شاردة ولا واردة إلا أحصتها.
ثم ذكر أهمية القول والحساب عليه تنبيهاً على خطورته وتأكيداً لأهميته، ويقول الله عز وجل في آية المجادلة محذراً من شأن النجوى والتناجي بالإثم والعدوان: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ} [المجادلة:8]، ثم ينادي الله عز وجل أهل الإيمان بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ} [المجادلة:9 - 10] لو كانت النجوى التي تسر بها خيراً فما بالك لا تشيعها وتعلن بها؟! وما بالك تذكر أخاك بكلمات هامسة تنال فيها من عرضه أو تشوه صورته؟! إن كان في قولك حق فهو أولى أن تواجهه به في نصيحة خفية قصدها الخير ودافعها المحبة والشفقة.
ثم تأمل حديث سفيان الثقفي الذي أخرجه الترمذي وصححه، وكذا النسائي وابن ماجة، أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك.
قال: قل: آمنت بالله ثم استقم، قال: فما أتقي؟ فأومأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى لسانه) أي أنه نبهه إلى أن يتقي زلات اللسان وخطورة الكلمات.
وعند الترمذي بسنده -وحسنه- عن عقبة بن عامر رضي الله عنه: أنه طلب الوصية من النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: (أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك) وما أعظم هذا الحديث وأجل هذه الوصية! لو أن المسلم تأمل فيها في واقعنا المعاصر فسيجد أكثر الناس بعيدين عنها غير منتبهين لها.
وإمساك اللسان من الأمور الواجبات، وكذلك الضبط والتفكير والعلم الشرعي والورع الإيماني والإدراك الواقعي الذي ربما نعرج عليه إن شاء الله تعالى.
وفي حديث البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه، عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من يتكفل لي بما بين لحييه ورجليه أتكفل له بالجنة).
وفي رواية: (من يتوكل لي).
وحديث معاذ المعروف المشهور: (وهل يكب الناس على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم).
وحسبك حديثه عليه الصلاة والسلام تنبيهاً وتحذيراً حيث يقول: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار سبعين خريفاً).
ولذلك جعل ضبط الكلام وجعل الكلمة في مسار الخير مرتبطاً بالإيمان، كما في حديثه عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم والآخر فليقل خيراً أو ليصمت) فالكلمة لها مجرى ولها سبيل، إن غلب على الظن أنها تورث خيراً وإصلاحاً، وتقرب بعيداً وتؤلف نافراً، وتقوي همة في الخير فإن ذلك هو المسار الصحيح، أما إذا تحقق المرء بأن الكلمة التي ينطق بها أو يكتبها تدعو إلى فجور، أو تغري بفاحشة، أو تورث شحناء، أو توقد بغضاً وحقداً وحسداً فإنه مأمور شرعاً بأن يكف عنها، وإن نطق بها أو أجراها كتابة فإنه آثم يلحقه إثمها، كما يلحقه ما يترتب عليها من الأضرار والآثار الوخيمة الوبيلة؛ إذ إن المرء موكول بمنطقه إن خيراً فخير وإن شراً فذاك مما يئول إليه أيضاً.