ولهذه التوبة آثار كثيرة وعجيبة؛ فالإنسان يجد بعض اللذة المشوبة بالخوف وبالتنغيص في هذه المعاصي، فما من لذة في المعصية إلا ويشوبها خوف واضطراب، إما خوف الناس والحياء منهم وأن يقفوا منه على هذه العورة وتلك السوءة، أو خوف الله عز وجل الذي يجعله يهتم ويغتم لما قد يوقع عليه من العقوبة الآجلة أو العاجلة، وكذلك يبقى مع هذه اللذات في هذه المحرمات أمور منغصة، فإنه ينتهبها نهباً، ويختلسها خلسة، ويأخذها على عجل، ويستتر بها عن أعين الناس، ويرى أنه يأتي أمراً حراماً، ولا يمكن أن يجد فيها لذة، ومهما زاد منها، فإنها ظلمة في القلب وضيق في الصدر، نسأل الله عز وجل السلامة.
فلينظر إلى الآثار الإيجابية في التوبة، وقد ذكر ابن القيم رحمة الله عليه في (مفتاح دار السعادة) أقوالاً كثيرة في هذه الآثار منها أنه قال: توجب له من المحبة والرقة واللطف وشكر الله وحمده والرضا عنه عبوديات أخر عظيمة وعجيبة، كما قيل: وربما صحت الأجسام بالعلل، قد يقدر الله الذنب فيعقبه التوبة فيحصل ذلك الفرح والفرج والخير من الله سبحانه وتعالى.
ومنها: أنه إذا شهد ذنوبه ومعاصيه وتفريطه في حق الله عز وجل استكثر القليل من نعم ربه -يعني: أنه يقول: هذه النعم كثيرة علي وأنا عاصٍ، فإذا وجد التوبة والطاعة أيضاً استقل هذه الطاعات في عظيم نعم الله سبحانه وتعالى، ولا يدرك ذلك إلا إذا سار في طريق الطاعة، وأناب إلى طريق التوبة.
ومنها: أن الذنب يوجب لصاحبه التيقظ والتحرز من مصائد عدوه، فالذي يذنب ثم يقلع عن الذنب إلى التوبة فإنه يكون أعرف بهذه المعاصي وأبعد عنها، وشديد الحذر وعظيم الحيطة منها، كما قال عمر رضي الله عنه: (إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية)، فإذا عرفها كان أبصر بمداخلها، ولذلك كان الصحابة أعرف الأمة بالإسلام وتفاصيله وأبوابه وطرقه، وأشد الناس رغبة فيه ومحبة له وجهاداً لأعدائه وتكلماً بأعلامه، وتحذيراً من خلافه لكمال علمهم بضده، فالذين يقعون في المعصية ثم يكتب الله لهم التوبة -كما نسمع من حال كثير من التائبين- يكون عندهم علم بما يقع من هذه المعاصي، وكيف أساليبها، وكيف فتنتها، وكيف آثارها، وأضرارها، فيكون لسان حالهم في الوعظ والتذكر أبلغ ممن لم يكن كذلك، وليس في ذلك تسهيل ولا دعوة إلى تلك المعاصي.
ومنها: أن القلب يكون ذاهلاً عن عدوه من الشياطين والأبالسة، فإذا تاب علم أنه كان مستسلماً للعدو فتنبه إلى مثل هذا الأمر.
ومن ذلك: أن الله سبحانه وتعالى إذا أراد بعبده خيراً أنساه رؤية طاعاته، ثم يبتليه بالذنب، ويجعله نصب عينيه، فينسى الطاعات، ويجعل همه كله ذنبه، فيستغفر الله سبحانه وتعالى إلى آخره.
ومن آثار التوبة: أن ينشغل الإنسان بعيوب نفسه، وأن ينصرف عن عيوب الناس، فأكثر ما تجد العصاة لهم ألسنة لا يسلم منها أحد، ولهم أبصار تهتك كل ستر، عياذاً بالله! وينشغلون بالقيل والقال وبتتبع السقطات وتلمس العثرات، أما المؤمن إذا أقلع عن ذنبه وفاء إلى ربه وتاب إلى الله سبحانه وتعالى علم أن عنده ذنوباً تشغله عن ذنوب الآخرين، وأن عنده عيوباً لو قضى عمره كله في إصلاحها لشغلته عن عيوب الناس الآخرين.
فلذلك أيها الإخوة الكرام! ينبغي أن نكون -بإذن الله عز وجل- على هذا القدم من الهمة في الإقلاع عن المعصية، ومحو رسومها وشخوصها وكلما يمت إليها بصلة في واقع قلوبنا ونفوسنا، وفي واقع بيوتنا وبيئاتنا، ونسعى إلى ذلك في واقع مجتمعاتنا؛ لأن المعصية في المجتمع لها أثر عليك، مثل الهوى الملوث، فإذا خرجت في السوق ورأيت المنكرات والمعاصي فإنها تؤثر عليك شئت أم أبيت، فلابد أن يكون هناك حرب على هذه المعاصي، ودروع تقي سهامها، واحتياطات تمنع من شرورها، ولابد فوق ذلك كله من توبة فيها ندم وحرقة تدفع -بإذن الله عز وجل- إلى أن يكون هذا الندم وقوداً يدفع إلى طاعة لله سبحانه وتعالى لا تنقطع.
والله نسأل أن يمنعنا عن المعاصي، وأن يسهل لنا ويوفقنا إلى الطاعات.