روى ابن عبد البر في (جامع بيان العلم وفضله) عن علي رضي الله عنه قال: (العلم قطرة كثرها الجاهلون).
فكم نفرح في كل المسائل عندما نشعبها، ونذكر فيها أقوالاً عدة، ونسرد فيها أدلة مختلفة! ويظهر لنا من بعد أن صاحب ذلك عالم نحرير، وكثيراً ما يكون وراء كل ذلك نور مشرق في آيات موجزات وفي أحاديث جامعات، لكن ذلكم يغيب عندما يغيب نور الإيمان من القلوب، ولذلك لو رجعنا إلى المتقدمين من أسلافنا ومن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجدنا ما وصف به ابن مسعود ذلك الجيل بقوله: (من كان مستناً فليستن بمن قد مات؛ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أعمق هذه الأمة علماً، وأقلها تكلفاً، وأعظمها إيماناً، وأرسخها يقيناً) أي: كان عندهم مع عمق العلم قلة التكلف؛ وذلك أثر إشراق الإيمان والتعلق بالله، فلا مكان لجدال القصد منه إثبات القوة العلمية أو إصابة المصالح والمكاسب الدنيوية، وإنما تنزل عن الرأي إن كان ذلك يؤدي إلى جمع للأمة ابتعاداً عن الافتراق والاختلاف.
أما رأينا ابن مسعود رضي الله عنه وهو الذي كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر ومع عمر رضي الله عنهما يصلي في الحج قصراً، فبلغه أن عثمان أتم، فاسترجع -أي: قال: إنا لله وإنا إليه راجعون- ثم حج بإمرة عثمان رضي الله عنه، فلما صلى أتم مع عثمان، فقيل له: بلغك القصر فاسترجعت، ثم صليت فأتممت؟ فأشرق نور الإيمان وظهرت معالم الهداية والتوفيق عندما قال ابن مسعود: (الخلاف شر) أي: أتفرق الأمة لأجل ترجيح في مسألة خلافية؟ ذلكم لا يكون إلا ببصيرة الإيمان والهداية الربانية التي يرتفع أهلها إلى مستوى تقديم المصالح العامة على المصالح الجزئية، والمقاصد الكلية على المسائل الجزئية.
إن نور الإيمان يجعل الإنسان على مثل هذا الهدي الذي كان لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وكم رأينا في سيرهم وفي سير أئمتنا من بعدهم من التابعين والعلماء والأئمة ما يكشف هذه البصيرة الهادية؛ فليس العلم كثرة مسائل ولا تشقيق فروع، وليس العلم مجادلة ولا مناظرة، بل العلم كما قال شعبة رحمه الله: (إنما العلم الخشية).
إن العلم هو خشية الله، إنه وازع الإيمان في قلب المؤمن، إنه بصيرة ونور يوصل إلى الحق من أقصر طريق بلا نزاع ولا شقاق ولا خلاف، ولذلك رأى علماؤنا وأئمتنا ذلك فظهر في أحوالهم.