نمضي اليوم إلى صور أخرى نرى فيها قصوراً ونقصاً، ويظهر من خلالها حاجة ماسة إليها وفقر، إنها الغفلة عن الله، وإظهار الاستغناء عن الله، وعدم الشعور بالضعف والذل والانكسار بين يدي الله، وعدم الشعور الدائم بالحاجة الماسة إلى أن يفضي بهمه وغمه بين يدي مولاه، وعدم الرجوع عند كل خطب وأثناء كل كرب إلى الله سبحانه وتعالى؛ فإن المؤمن هو الذي يتوكل على الله، وينيب إليه، ويخلص له، ويستمد منه ذلكم الأمر المهم؛ لأن القلب المؤمن موصول بالله، ولأن اليقين الراسخ في النفس يجعل الثقة لا تعطى إلا لله، والقوة لا تطلب إلا من الله، والنصر لا يستنزل إلا من عند الله، ولأن المؤمن الحق يعرف أنه لا حول ولا قوة إلا بالله، ولا هدى ولا تقى إلا في منهج الله، ولا صلاح ولا راحة ولا حياة طيبة إلا باتباع شرع الله.
إن الأسئلة المهمة التي نرى ضعفها في واقع حياتنا وتجعلنا نتساءل هي: أين الالتجاء إلى الله والدعاء له؟ وأين الافتقار إلى الله والقنوت له؟ وأين الركون إلى الله والقنوت له؟ وأين نحن في واقع الحياة من هذا الأمر، ونحن نرى المؤمنين والمسلمين في كثير من أحوالهم يلتمسون القوة عند أهل الأرض في شرق أو غرب، ويلتمسون العون عند هذا المخلوق أو ذاك؟ كأنما خلت قلوبهم من صلة عظيمة بالله وافتقار شديد إليه، وكأنما لا يستحضرون المعاني الإيمانية التي ضرب الله عز وجل لنا بها المثل في أعظم الخلق وأشرفهم وهم رسله وأنبياؤه، فالرسل والأنبياء مع كل ما آتاهم الله عز وجل ضربوا لنا المثل في أنهم كانوا القدوة في افتقارهم إلى الله؛ فهم الذين صوروا لنا في واقع حياتهم لجوءهم إلى الله، وكثرة دعائهم وتضرعهم وانكسارهم وذلهم وإخباتهم لله، لقد كانت ألسنتهم رطبة بذكر الله، وأيديهم مرفوعة بالدعاء إلى الله، وأعينهم دامعة من خشية الله، وقلوبهم مملوءة بحبه وخوفه سبحانه وتعالى.
فهذا نوح عليه السلام تكالب عليه قومه، وحاصروه من كل جانب مع ثلة قليلة من أهل الإيمان كانوا معه، ولكنه كما قال الله عنه: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر:10]، وجاء الجواب سريعاً: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر:11 - 12]، فما التمس عوناً من هنا أو هناك، بل كان يعرف القوة ومصدرها والنصر ومنزله فمد يديه إلى الله سبحانه وتعالى.
وهكذا نبي الله يونس قال عنه سبحانه: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87]، وجاء
صلى الله عليه وسلم { فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:88].
وهكذا في قصة أيوب عليه السلام قال سبحانه: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83].
وهكذا في قصة زكريا قال عز وجل: {رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء:89].
وهكذا في قصة يوسف عليه السلام نجد استنجاده واستعصامه بالله: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33].
ففي كل الصور: صور العداء، صور الفتنة، صور الإغراء، صور الفقر، صور الغنى، كان الاستمداد واللجوء والتضرع والابتهال والصلة الدائمة بالله دليلاً على إيمان حي في القلوب، وعلى نور مشرق في النفوس يدفع الإنسان دائماً وأبداً إلى أن يستشعر فقره وضعفه وذله وانكساره وحاجته لله سبحانه وتعالى.