Q هناك بعض الشباب صغار السن وقليلي العلم يقومون باتهام بعض الشيوخ والعلماء، أو يقومون بالتشهير بهم أو ببعض مؤلفاتهم، وهناك بعض الكتب تخرج في الرد على بعض العلماء من بعضهم الآخر، فما موقفنا تجاه هذه القضايا؟
صلى الله عليه وسلم من لا يحسن السباحة لا يذهب إلى الأماكن العميقة، بل يسبح على الساحل، وقد ذكرنا أنه لا يقبل الجرح إلا من عالم به، وعالم بأسبابه، وعالم بمدلولات ألفاظه، مع التيقظ والتنبه، إضافة إلى الورع والتقوى، وحينئذ لا يقبل بحال من الأحوال قول من لا علم له، أو ليس له بصيرة، أو من لا يعرف هذه الأمور، سواء جرح عالماً كبيراً أو صغيراً، بل ينبغي أن ينصح ألا يقع في هذا الأمر، وكما ذكر ابن دقيق العيد حيث قال: أعراض المسلمين حفرة من حفر النار، يقف على شفيرها المحدثون والحكام.
فإن استسهل ذلك وتجرأ عليه فإنه في خطر عظيم.
وأما كلام العلماء فيما بينهم، فكما ذكرنا: إن كان الجرح في العلماء من غير بيان وتفصيل يستطيع الإنسان من خلاله أن يستنبط أن هذا قد أخطأ فعلاً أو جانب الصواب؛ فإنه كما قيل في كلام الأقران: لا يؤخذ قول بعضهم في بعض، وكذلك إن لم يكن المطلع على المسألة ممن يعرف المسائل، وممن يعرف دلالات الألفاظ، فإنه لا يفهم أيهما أحق، وأيهما ينتصر له، فلذلك ليس له أن يعلو إلى فوق مقامه، فهو لا يريد الآن فقط أن يرتقي إلى مقام هذا العالم وهذا العالم، بل يريد أن يرتقي إلى منزلة أعلى منهما لينظر من علم، فيرجح بين هذا وهذا، فإن لم يكن بالغاً منزلة واحد منهما فكيف له أن يحكم بينهما؟! فلا شك أن كلام العلماء فيما بينهم ينبغي أن يتورع الإنسان عن الخوض فيه، إلا إن كان قد تمكن من العلم أو استقصى في المسألة، أو ركن إلى من يثق بعلمه وتقواه ممن قد يرجح له الصواب على الخطأ، مع اعتقاد أن وقوع الخطأ ممن أخطأ لا يعني إهداره بالجملة، ولا يعني القدح فيه؛ لأن موارد الاجتهاد كثيرة، ولأن العصمة ليست لأحد، ولأن الخطأ وارد ومطرد على الناس.
وهذه الخلافات فيها نوع من الآفات التي تشوش ذهن الشباب أو من ليس له حظ من العلم، فينبغي أن يعرف الأصول التي يحتاج إليها، ومما يذكر في هذا المقام قصة المزني مع شيخه الشافعي، لما سأله فقال: مسألة حاكت في نفسي من أمر التوحيد قلت لا يجيبني عنها إلا أنت، وجاءه وهو في المسجد في مصر، فسأله عن هذه المسألة، وهي مسألة غريبة، فقال: هل تعلم نجماً في السماء متى يطلع؟ ومتى يبزغ؟ قال: لا، قال: هل تعرف متى النجوم كذا؟ قال: لا، فسأله مسائل وهو يقول في كل منها: لا، ثم قال: فهذه مخلوقات الله تعلمها ولا تعرف كيفية بزوغها وأفولها، فكيف تسأل عن فعل الله سبحانه وتعالى؟! ثم سأله بعد ذلك وهو شاهد الحال عن مسألة في الوضوء، فلم يحسن الجواب فيها، قال: ففرعها لي على أربعة أوجه فما أصبت فيها، فقال: مسألة تحتاج إليها في كل يوم خمس مرات لا تعلمها، وتتكلف علم ما ليس لك به علم! فهذه الخلافات ينبغي ألا تشوش على المبتدئ، وينبغي أن يأخذ الأصول، وأن يعرف ما قد يكون جاهلاً به من أركان صلاته أو أركان وضوئه أو ما يتعلق به، وهذا أمر مهم.
الأمر الثاني: ألا يؤدي ذلك إلى فرقة، وإلى تنازع بين الأمة، وتشتيت لجهودها.
الأمر الثالث: ألا يصرف هذه الملاحظات، وهذا النقد عن توجيه سهام النقد، وبيان الزيف والخطأ فيما هو خارج عن دائرة كلام العلماء، بمعنى: أن يصب في دائرة كلام الأعداء الذين يثيرون على الإسلام الشبهات التي يلقونها، والرد على من نعلم جميعاً أنه لا يقصد خيراً، وأنه صاحب هوى، وله غرض سيء، فينبغي ألا يشغل مثل هذا عما هو أهم وأعظم من ذلك الأمر.
قال العلماء: الإنسان ينبغي دائماً أن يكون مخلصاً لله، فحينئذ يبصر بإذن الله سبحانه وتعالى مواطن الصواب في مثل هذه الأمور، وهذه المسائل قد عمت بها البلوى إلى حد كبير، لكن من رجع إلى كلام السابقين، وإلى تصرفاتهم، وإلى جرحهم وتعديلهم، وإلى مواقفهم عند الاختلاف ربما لاح له كثير من النور والضياء، والمواقف التي يستطيع -إذا استمسك بها واسترشد بها ورجع إليها- أن يكون إن شاء الله على الحق، ولا يخوض في مثل هذه الأمور بما يشغله عما هو أعم له وأنفع له، والله أعلم.