النقطة الأهم في قواعد الجرح والتعديل هي: متى يصح أن ننقض؟ ومتى يجوز الجرح والتعديل؟ من المعلوم أن الغيبة محرمة، وأن الوقوع في الأعراض من أعظم الذنوب، وقد بين العلماء المواطن التي يجوز فيها ذلك، ثم بينوا القواعد التي تضبط هذه المواطن أيضاً.
هذه المواطن ستة ذكرها الإمام الغزالي والإمام النووي رحمة الله عليهما، قالا بتوافق بينهما: الأول: التظلم، فيجوز للمظلوم أن يتظلم إلى السلطان والقاضي وغيرهما ممن له ولاية، يعني: إذا ظلمه إنسان لا يمكن أن يسكت ويذهب فيمدحه، فهو صاحب حق فله أن يقول: فلان ظلمني أخذ مالي فعل كذا وكذا فيذكر ما وقع من ظلم منه، فهذا لا شيء فيه.
الثاني: الاستعانة على تغيير المنكر، ورد العاصي إلى الصواب، فيقول لمن يرجو منه إزالة المنكر: فلان يفعل كذا إن كان لا يستطيع أن ينكر عليه هو، أو قد استفرغ جهده ولم يقدر عليه.
الثالث: الاستفتاء، فيقول للمفتي: ظلمني أبي بكذا فما سبيل الخلاص؟ أو فعل فلان معي كذا وكذا فما أفعل معه؟ الرابع: تحذير المؤمنين من الشر ونصيحتهم، وهذه مسألة مهمة، وهي متعلق كل من يخوض في هذا الباب، فإنه يدعي أنه ينصح للمسلمين، وأنه يذب عن حياض الإسلام، قالا: ومن هذا الباب المشاورة في مصاهرة إنسان، أو مشاركته في عمل، أو إيداعه وديعة عنده، أو معاملته أو غير ذلك.
ومنه جرح الشهود عند القاضي، وجرح رواة الحديث، فهذه كلها هدفها النصح للمسلمين، وتحذير المسلمين من الشر، وهو جائز بالإجماع، بل واجب للحاجة، لكن سيأتي تفصيل الحديث عنه، ومنه ما إذا رأى متفقهاً يتردد إلى مبتدع أو فاسق يأخذ عنه العلم، وخاف أن يتضرر المتفقه بذلك، فينصحه ببيان حال الذي يذهب إليه، بشرط أن يقصد النصح ولا يحمله على ذلك الحسد والاحتقار، وهذه القضية دقيقة وحساسة: وكل يدعي وصلاً بليلى وليلى لا تقر لهم بذاك يعني: كل إنسان يعلن أنه يريد نصح المسلمين، والذب عن الأخطاء التي تقع، لكن ينبغي أن يحاسب نفسه، هل هذا هو المبعث الصحيح أم أنه قد خالطه بعض الأخلاط والأغلاط مما لا يسلم منه من هوى أو منافرة ومخالفة أو شيء من الجفوة والغلظة التي تكون في الطبع أحياناً كما سيأتي الحديث عنه؟! الخامس: أن يكون الرجل مجاهراً بفسقه أو بدعته، فيجوز ذكره بما يجاهر به دون غيره من العيوب: وانظر إلى هذه المسألة، يقول: ما جاهر به نذكره، وما كان مستتراً به نستره على غرار ما فعل، فإذا جاهر، وهتك ستر الله عليه، وأتاح للناس أن يواجهوا ذلك بالتحذير منه؛ فلا ستر له حينئذ؛ لأنه قد هتك الستر بفعله، لكن هل نتجاوز هذا الحد ونخوض في كل أمر؟ لا.
السادس: التعريف، أن يكون المقصد بذكر هذا العيب أو تلك العلة التعريف، كأن يكون الرجل معروفاً بوصف يدل على عيب، كالأعمش والأعرج والأصم والأعور والأحول وغير ذلك، إن كان لا يعرف إلا به، أما إن كان له اسم يعرف به أو شهرة تدل عليه فلا يصح هذا.
فهذه الضوابط العامة التي يكون فيها مجال الجرح والتعديل، أو التقويم، أو ذكر المساوئ، أو بيان العثرات، هذه هي المجالات، لكن أين المجال الأكثر؟ التظلم معلوم، وطلب النصح معلوم، لكن الدقة في مسألة النصح للمسلمين، ومسألة الحرص على بيان الخطأ، ومسألة الحرص على ألا يلبس على الناس، هذه هي التي يكثر فيها الكلام، وتكثر فيها الدعاوى؛ ولذلك نأتي بكلام العلماء في التفريق الدقيق، وذكر القيود الضابطة الحساسة، كما أشرت إلى صاحب المثل حيث يحتاج إلى أن يزيح الأكدار حتى يصفو له النبع، فيأتي الأمر على وجهه، فيترك هذه الأخلاق ويذهب إلى النبع، فيحصل له المراد إن شاء الله.
فرق الإمام القرافي في كتاب الفروق بين قاعدة الغيبة المحرمة والغيبة التي لا تحرم، وذكر هذا عند أحد الأسباب المجيزة للغيبة وهي النصح للمسلمين، فقال: ويشترط في هذا القسم أن تكون الحاجة ماسة لذلك، يعني: يكون هناك احتياج لأن تذكر هذا العيب، أما هكذا لمجرد التفكه والتندر وشغل الأوقات أو ظهور الفضل بذكر نقص الآخرين فهذا لا شك أنه من أخطر الوجوه، يقول: وأن يقتصر الناصح في ذكر العيوب على ما يخل بتلك المصلحة الخاصة التي حصلت المشاورة فيها دون غيرها، كأن جاءه رجل يشاوره في أمر الزواج، فيذهب ويذكر له عيوبه في البيع والمعاملة وو، والسؤال كان عن دائرة معينة، فينبغي إذاً في مسألة المشاورة ألا يتجاوز في ذكر العيب القضية التي سئل عنها، والتي يحتاجها السائل، فإن حفظ مال الإنسان وعرضه ودمه عليك واجب، وإن لم يعرض له بذلك، ثم ذكر الشروط فقال: الأول: احترازاً من ذكر عيوب الناس مطلقاً، وإنما على قدر المطلوب.
الثاني: احترازاً أن يستشار في أمر الزواج مثلاً فيذكر العيوب المخلة بمصلحة الزواج، والعيوب المخلة بالشركة أو المساقاة، أو يستشار في السفر معه فيذكر العيوب المخلة بمصلحة السفر والعيوب المخلة بالزواج، كما يقال: ما صدق أن يفتح له الباب، فذكر كل ما يعرف، بل كل ما يسمع، فالزيادة على العيوب المخلة بما استشرت فيه حرام، بل تقتصر على عيب ما أراده منك السائل، فمثلاً يقول: إن كفى منك قولك لا يصلح لك، لم تزد عليه، إن كان الرجل أصلاً ما جاءك يستشيرك إلا وهو واثق بك، وقابل لحكمك، فإن كان يكفيه ويغنيه أن تقول: والله هذا لا يصلح لك، فليس لك أن تزيد على ذلك، فتقول: لا يصلح لك؛ ولأنه وتفتح قائمة طويلة لها لا منتهى لها! كلا، قال: إن كان يكفي قولك: لا يصلح لك، لم تزد عليه، وإن توقف على ذكر عيب وبيانه ذكرته ولا تجوز الزيادة عليه، أو على ذكر عيبين مثلاً اقتصرت عليهما، بمعنى: أنه لو كفى ذكر عيب واحد كان ذكر الثاني حراماً، فهذه من وجوه التفريق الدقيقة حتى لا يقع الإنسان غير المتنبه في المحظور.
ومثل ذلك ما يقع أحياناً من كلام الناس فيما يقولون مثلاً: فلان الله يصلحه، أو دعونا منه، أو إنه عجيب، فيظن أنه لم يغتابه بشيء من ذلك! وما يظن أن ذلك من أقبح الغيبة.
كذلك يذكر الزبيدي في مسألة جواز الغيبة أموراً أخرى أضافها على تلك الشروط السابقة: أن يكون ذلك مشروطاً بقصد الاحتساب وإرادة النصيحة، أي: تكون نيته الباطنة أنه يحتسب ذلك، ليس تحقيقاً لغرض آخر، وأن يخلص النصح لله سبحانه وتعالى؛ دفعاً للاغترار به، فمن ذكر أحد من تجوز غيبته في بعض الحالات تشفياً لغيظه أو انتقاماً لنفسه ونحو ذلك من الحظوظ النفسانية فهو آثم، ثم ذكر قصة عن ابن السبكي وعن والده، وهي قصة قد يراها بعض الناس مبالغة، وهي تبين أنه إذا ذكرت الجرح وفي نفسك شيء من الازدراء والاحتقار لهذا المخطئ، فقد وقعت في شيء من الحرام، يقول: صرح بذلك تاج الدين ابن السبكي عن والده، يقول: كنت جالساً في دهليز دارنا، فأقبل كلب فقلت: اخسأ كلب بن كلب، وهو صحيح، فزجرني الوالد من داخل البيت، يعني: نهاه، والسبكي ووالده من الأئمة والعلماء، فقلت: أليس هو كلب وابن كلب؟ قال: شرط الجواز عدم قصد التحقير، فقلت: هذه فائدة، فهذا الإمام ينبه ولده في حق الحيوان الذي لا عقل له: ألا يخالط قصده شيئاً من الاحتقار؛ لأنه من خلق الله، أو لأن فيه جزءاً من نفع أحياناً، ونريد بضرب هذا المثال أن يطبق هذا في الناس، ونريد أن نبين دقة السابقين في محاسبة أنفسهم، وتورعهم واحتياطهم.