إن الله جل وعلا قد ساق هذا الفضل بما لا يتصوره العقل، إلا أن يكون مستحضراً لعظيم جود الله عز وجل، وعظيم لطفه بعباده سبحانه وتعالى، فأنت ترى أمر الصلاة يحدوك إلى الإقبال عليها والارتباط بها، والسعي الدءوب الحثيث للغنيمة المتواصلة المتكاثرة منها، بما جعل الله في كل شأن من شئونها وكل أمر من أمورها من أجر وفضيلة.
فالنداء إليها -وهو الأذان- هو الذي يعلن التوحيد، ويذكر بأمر الآخرة، وينادي المنشغلين بالدنيا ليأخذوا زاداً من تقوى الله عز وجل، ومن مراقبته سبحانه وتعالى ليواجهوا الباطل من بعد ذلك، وليعرفوا حقيقة الحياة الدنيا، ويجعل الله عز وجل في ذلك فضلاً وأجراً.
ثبت عن سعد بن أبي وقاص في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال حين يسمع المؤذن: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً غفر له ذنبه).
وفي صحيح البخاري من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة! آت سيدنا محمداً الوسيلة والفضيلة، والمقام المحمود الذي وعدته.
حلت له شفاعتي يوم القيامة).
ويقول النبي عليه الصلاة والسلام فيما يرويه أنس في مسند أبي يعلى بسند حسن: (من قال مثل مقالته) أي: مثل مقالة المؤذن.
وفي حديث بلال رضي الله عنه قال: (من قال مثل مقالته وشهد مثل شهادته) أي: كرر الشهادتين مع المؤذن (فله الجنة)، فهذا في النداء إليها وفي التذكير بها وفي الدعوة إلى شهودها قبل أن تقبل عليها وتتهيأ لها وتتوجه لها.
وفوق ذلك -أيضاً- يهب الله لك مزيداً من الفضل ترغيباً وتشويقاً وتحبيباً، لتأتي إلى بيته ولتناجيه وتدعوه سبحانه وتعالى، فبمجرد سماع هذا الأذان ينسكب في القلوب، فتهتز القلوب شوقاً، وتتعلق بشهود الصلوات في المساجد مع الجماعات، وما يزال المؤمن مرتبطاً بها فيستحق حينئذٍ ذلك الوعد العظيم والأجر الكبير الذي ذكرنا به النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح من حديث أبي هريرة عن السبعة الذين يظلهم الله عز وجل تحت ظل عرشه في يوم القيامة، وذكر منهم: (رجل قلبه معلق في المساجد)، قال أهل العلم: ومعناه أنه شديد الحب لها والملازمة للجماعة فيها، وليس معناه دوام القعود في المسجد! فهو تعلق قلبك عندما تنتهي من هذه الصلاة، فأنت مستحضر في قلبك أنك ستدعى مرة أخرى إلى لقاء الله، وإذا سمعت النداء تهيأت بقلبك ونفسك للإقبال على الله، فهذا لك به أجر عظيم؛ لأن هذا المعنى الذي استقر في قلبك هو من أعظم المعاني، معنى التعلق الدائم والارتباط التام بالعبودية لله عز وجل، فما يزال قلبك مستحضراً أنك بين الفينة والأخرى، بين الصلاة والصلاة وبين النداء والنداء، تنطرح بين يدي الله عز وجل، وتسجد له سبحانه وتعالى، وتخضع له، وتذرف دمع الندامة، وتدعو دعاء المتضرع لله سبحانه وتعالى، كل ذلك ولما تأتي بعد إلى الصلاة.
فإذا تحركت إليها، وإذا مشيت إليها جاءك فضل من الله عز وجل يتلقاك مع أول حركة وأول خطوة، كما جاء في صحيح مسلم من حديث جابر: (أن بني سلمة أرادوا أن ينتقلوا -وقد كانوا بعيدين عن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم-، فلما خلت البقاع من حوله أرادوا أن ينتقلوا ليكونوا على قرب من مسجد رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: يا بني سلمة! دياركم تكتب آثاركم) أي: الزموا دياركم فإنها تكتب آثاركم وخطاكم إلى المسجد عند الله سبحانه وتعالى.
قال النووي: فإنكم إذا لزمتموها كتبت آثاركم وخطاكم إلى المساجد.
وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى ترغيباً وتشويقاً.
وفي حديث أبي هريرة عند مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه متسائلاً يحثهم ويرغبهم ويعلقهم بهذه الصلاة: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله!)! ومن يسأل مثل هذا السؤال اليوم؟! ومن يتعلق به اليوم؟! ومن يبحث عن جوابه؟! ومن يرتبط بمدلوله؟! ومن يلتزم بمقتضاه؟! قلّ هذا في الناس أو شغلوا عنه.
أما النبي صلى الله عليه وسلم فإنه في مشهد من أصحابه يلفت أنظارهم وينبه قلوبهم: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله.
قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة)، فهل ترى في هذه الخصال الثلاث شيئاً يخرج عن الصلاة؟! إنه الوضوء وهو شرط الصلاة، إنه السعي والإقبال إلى الصلاة، إنه الرباط في انتظار الصلاة.
فالأمور الثلاثة كلها التي يحصل بها هذا المحو للخطايا والرفعة للدرجات والمضاعفة للحسنات ساقها الله عز وجل لنا في هذه الفريضة.
وهناك بشارة عظمى يتعلق بها قلب كل مؤمن، ذلك أن المؤمن الحق إنما ينظر إلى الآخرة، وينظر إلى ما بعد هذه الحياة الدنيا إلى الهول الأعظم، وإلى الحساب الدقيق، وإلى العذاب الشديد، كيف يفتدي نفسه منه، كيف يفك رقبته منه، كيف يعمل ما يظن أنه ينال به رحمة الله عز وجل ورضوانه سبحانه وتعالى.
جاءت هذه البشارة في حديث سهل بن سعد عند ابن ماجه، وفي سنن أبي داود من حديث بريدة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة) يوم يحجب النور عن أهل النفاق والكفر والعصيان، يوم يبحث الناس عما يضيء لهم الطريق ليجوزوا الصراط وينجوا من عذاب الله عز وجل ومن كلاليب النيران، يوم تمشي في الظلمات إلى المساجد في صلاة العشاء أو الفجر تسعى إلى طاعة الله، وتتحرك إلى رضوان الله، يفتح الله عز وجل لك في حياتك الدنيا، وينور لك قلبك، ثم يكون ذلك ضياء بين يديك يوم القيامة {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} [التحريم:8].
هكذا تتميز عندما تقبل على هذا الأمر العظيم، وليس ذلك فضلاً منك، وإنما هو واجب عليك، ولكن فضل الله سبحانه وتعالى يجعل على الواجب أجراً أعظم من الأجور التي تكون للمندوبات والمستحبات، وهذا من عظيم فضل الله عز وجل ومنته على الناس.
ثم ما الذي يجعلك تتقاعس وأنت في كل حال وفي كل لحظة ووقت وفي كل ما يتصل بشأن هذه الصلاة مأجور عند الله سبحانه وتعالى، لماذا؟ لأن الله جل وعلا جعل هذه الصلاة صلة بينك وبينه سبحانه وتعالى، فجعل في كل أمر من أمورها وفي كل شأن من شئونها أجراً عظيماً، حتى يبقى القلب موصولاً بالله، وتبقى الصلة دائمةً بالله سبحانه وتعالى.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن أحدكم ما قعد ينتظر الصلاة فهو في صلاة ما لم يُحدث، تقول الملائكة: اللهم! اغفر له، اللهم! ارحمه) فهذه ملائكة الرحمن تتنزل من السماء لتشهدك وأنت تنتظر الصلاة في بيت الله ثم تتوجه إلى الله بالدعاء لك بالمغفرة والرحمة والرضوان.
فأي وقت يكون طويلاً وأنت في هذه الحالة؟! ما بالك قد ترى أنك بكرت إلى الصلاة، أو جئت بعد الأذان فتنظر إلى ساعتك وتستطيل الوقت إلى الإقامة، وإذا أطال الإمام قليلاً في قراءته تململت ورأيت أن الوقت -كما يقال- قد ضاع؟! وأي وقت يضيع وأنت في بيت الله، وحولك ملائكة الله، والدعاء مرفوع لك إلى الله عز وجل، وأنت تسجل لك الحسنات وتمحى عنك السيئات؟ فهل ندرك عظيم ذلك الفضل الذي غفل عنه كثير منا ولم يستحضروا في قلوبهم ونفوسهم ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الصورة العظيمة التي شملت كل فضيلة في هذا الأمر؟ وفي حديث عثمان رضي الله عنه -كما في صحيح مسلم - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من توضأ للصلاة فأسبغ الوضوء، ثم مشى إلى الصلاة المكتوبة فصلاها مع الناس في المسجد غفر الله له ذنوبه) مغفرة عند الأذان، ومغفرة عند الوضوء، ومغفرة في السعي والمشي إلى الصلاة، ومغفرة عند أداء الصلاة، أليس هذا فضلاً عظيماً من الله عز وجل؟! ما بال الناس اليوم غفلوا عن هذا الفضل؟! فلا تراهم في المساجد إلا قليلاً، ويقلون بشكل أكبر في بعض الفرائض كصلاة الفجر أو العصر أو غيرها مما قد يكون فيه مشقة يسيرة لا يمكن أن تصد أو أن تحجب عن مثل هذا الأجر الكبير والفضل العظيم.
وفي الحديث المشهور -الذي يحفظه كثير من الناس، وهو حديث ابن عمر في الصحيحين- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ -أي: الفرد- بسبعٍ وعشرين درجة) وما أدراك ما هذه الدرجات؟! وما أدراك ما فيها من الفضائل والحسنات؟! وهذا فضل عظيم ساقه الله عز وجل، وكلما شهدت الصلاة مع جماعة أكبر كان الفضل والأجر عند الله عز وجل أعظم.
كل ذلك لتبقى مشدوداً متعلقاً بهذه الفريضة، وبعض الناس يختار الأدنى ويرضى بالأقل في أمر الدين، بينما هو في أمر الدنيا يسعى للمراتب العالية وللفرص العظيمة، وإن كانت صعبة أو شاقة، ولذا نجد بعض الناس كلما وجد فرصة للترخص أو لترك الصلاة مع الجماعة في المسجد أو لأي شأن من الشئون رأى أن في ذلك عذراً يكفيه لأن يرضى بالأقل من الأجر، كأنما قد غنمنا أجوراً كثيرة، وأمنا من معاص وسيئات عديدة، نسأل الله عز وجل السلامة.
يقول النبي عليه الصلاة والسلام -كما في سنن أبي داود من حديث أبي بن كعب -: (إن صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده