وقفتنا الأولى في مشروعية هذه العملية، وهنا مسائل: أولها: أن هذه الانتخابات وغيرها إنما هي وسيلة لغاية، فقد تكون اليوم على هذا النحو في سبعة أجزاء، وقد تكون من بعد في عشرة، وقد يكون الأمر في أشخاص عدتهم كذا ثم يكونون كذا، فهي وسيلة، والقاعدة تقول: إن للوسائل أحكام الغايات ما لم تناقض شرعاً أو يكون فيها محرم.
والغاية لمثل هذا الأمر هو أن يكون من بين الناس من يؤدي أدواراً مهمة كما هو معلن وكما هو مراد، وأولها: تحسين الأداء والعمل الذي تقوم به هذه البلديات، ونحن نعلم -ولا إشكال في وضوح ذلك وبيانه- أن من أكثر الجهات التي يشتكي منها الناس وقد يعانون من خدماتها وقد يكون فيها من التجاوزات ما فيها هذه البلديات، وهذه المشاركة -مما هو ظاهر فيها ومعلن عنها- تهدف إلى تحسين الأداء.
وثانيها: أنها تهدف إلى الضبط والمراقبة ومنع ما قد يكون من خلل أو تجاوز أو تغيير لحق أو تأخير له ونحو ذلك، وهذا أيضاً أمر مهم وغاية محمودة ينبغي الحرص عليها.
والثالث: توصيل حوائج الناس وقضاؤها والتعجيل في تحقيق مطالبهم، ذلك أن الذين ينتخبون ليسوا محسوبين على الوظائف المعتادة التي يستند فيها الموظف إلى تعيينه دون التفات إلى مصالح الناس، وأول مهمة هؤلاء أنه ينبغي أن يسمعوا أصوات الناس، وأن يسمعوا مشكلاتهم، وأن يكونوا ساعين لهم وأجراء عندهم ووكلاء عنهم في حقيقة الأمر؛ لأن هذه هي حقيقة الولاية في الإسلام، حتى الولاية العظمى -أي: ولاية أمر المسلمين- إنما ولي أمر المسلمين فيها وكيل عنهم في إقامة الدين وسياسة مصالح الدنيا، وإنما هو أجير عند الأمة يقوم بما كلفه الله عز وجل إياه لتحقيق مصالح الأمة، فإذا كانت هذه هي الغايات المحمودة من حسن الأداء والعمل ووجود الرقابة والضبط، وكانوا أجراء عند الناس ووكلاء عنهم في الحرص على مصالح الناس وتحقيقها، فالوسيلة حينئذٍ تأخذ حكم هذه الغاية في جوازها وفي مشروعيتها وفي استحبابها.
ثاني تلك المسائل: أن مثل هذا بالنسبة للناس هو لون من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن قلنا: إن هناك خللاً أو فساداً أو تقصيراً وجاءت وسيلة يمكن من خلالها أن نقوم هذا الخلل أو نكمل ذلك النقص أو نقوم هذا الاعوجاج فلا شك أن هذا مطلب في حق كل مسلم؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد جعل سمة المؤمنين في المجتمع المسلم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال جل وعلا: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [التوبة:71]، بل جعل سمة الأمة كلها مرتبطة بذلك، كما في قوله سبحانه وتعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110].
فهذه وسيلة لك ولمن يصل إلى ذلك الموقع ليؤدي هذه المهمة ويتقي الله سبحانه وتعالى، فلا يرى منكراً إلا ويمنعه بقدر جهده وطاقته، ولا يرى خيراً إلا ويسعى إلى إنفاذه وإقراره ونشره وإقامته بين الناس.
الثالث: أن هذا الانتخاب شهادة، فإن قيل لك: إن هذا موقع من المواقع ومنصب من المناصب يتنافس فيه عشرة من الناس ونريد منك أن تشهد شهادة لله عز وجل لمن ترى أو تعرف أنه أقدر على قيامه بالواجب في هذه المهمة والمسئولية، فالشهادة حينئذٍ مطلوبة، والمؤمن لا يشهد إلا بالحق، وإذا قصر عن الشهادة في وقت يحتاج فيه إلى شهادته فترتب على غياب شهادته إقرار لباطل، أو تقديم لفاسد أو نحو ذلك فإنه قد يكون آثماً بهذا؛ إذ سكت عن حق وكتم شهادة، وكلنا يعلم ذلك في قوله جل وعلا: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:140]، والله جل وعلا يقول: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة:283]، فاشهد بالحق، وقل بما يغلب على ظنك أنه الصواب، وتحر الإخلاص، وتنزه عن أن يكون لك مقصد غير إقرار الحق والنطق به والشهادة به، كما قال عز وجل: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق:2].
فقوله تعالى: (أقيموا الشهادة لله) أي: ابتغاء وجهه ومرضاته، لا لمصلحة ولا ميل إلى من لك عنده مصلحة.
فانتخابك شهادة فلا ينبغي لك أن تكتم الشهادة وأنت قادر على إنفاذها، وأنت تعلم أن إنفاذها يكون فيه خير.