أقف -أيها الأحبة الكرام- مع ثلاثة آثار مهمة، جدير بنا أن ننتبه لها، وأن نتواصى بها: الأثر الأول: الإقبال والإكثار من الطاعات.
ودعوني أذكر لكم ذلك ما يقع لي ولكم ولكل أحد في غالب الأحوال: أكثر الناس يصومون، فإن سألت أحدهم عن السبب يقول: لأنه ركن من الأركان، وفريضة من الفرائض، فيصومه وإن شق وثقل على النفس، وإن كرهه من القلب كما قد يحصل، لكنه يقول: لابد أن أصوم، فيشرع في ركن وفريضة هي مما افترضه الله عليه وأحبه منه، كما في الحديث القدسي: (إن أحب ما تقرب إلي به عبدي الفرائض).
ثم إذا صام ماذا يقول؟ يقول: هل أصوم وأؤدي فرضاً، ثم لا أصلي؟! وهل أترك فريضة الصلاة الواجبة في كل يوم وآخذ فريضة الصيام التي هي مرة في العام؟! فيجول في ذهنه ذاك، فيقول: لابد مع الصيام من الصلاة، فيصلي إن كان تاركاً لها، أو مقصراً فيها، أو متخلياً عن أدائها في أوقاتها، أو متخلفاً عن شهودها في أماكنها، فيبدأ بالصلاة.
ثم يقول: شهر رمضان شهر القرآن، وسأذهب إلى المسجد للصلاة، وسأمكث فيه أوقاتاً، فلمَ لا أرطب لساني بالقرآن؟! ولمَ لا أحيي قلبي بتلاوة كلام الرحمن؟! فيبدأ في تلاوة القرآن.
ثم يتذكر أن هذا الشهر شهر مخصوص بقبول الدعاء، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا ترد دعوتهم، ومنهم: الصائم حين يفطر)، ويتذكر أنه في وقت الأسحار يكون مستيقظاً، ويتذكر أن هذا هو الثلث الأخير من الليل الذي ينزل فيه رب العزة والجلال إلى السماء الدنيا وينادي برحمته سبحانه وتعالى عباده: (هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له، وذلك الدهر كله) فيبدأ حينئذ يلتفت إلى الدعاء، والدعاء مخ العبادة كما قال صلى الله عليه وسلم.
فإذا بسجوده يطول ليكثر دعاؤه، وإذا بقنوته يطول ليكثر دعاؤه، وإذا به في أعقاب كل صلاة وفي كل وقت يرفع يديه إلى الله عز وجل متضرعاً وداعياً.
ثم يقول: رمضان أعظم مواسم الإحسان من الكريم المنان سبحانه وتعالى، فلمَ لا أصوم وأحسن؟ ولمَ لا أصوم وأنفق؟ ويتذكر أجر تفطير الصائم، وأنه يناله كاملاً غير منقوص، ويتذكر أجر الصدقة ومضاعفتها، فيدخل في عبادة جديدة، وإذا به من غير شعور، وربما من غير عزم سابق قد ألم بهذه الطاعات كلها، وإذا بها لا أقول: تخف على نفسه؛ بل تصبح محبوبة له، يرغب فيها، ويشتاق إليها، ويحس بلذتها، ويتذوق حلاوتها، وذلك أثر معروف من آثار الطاعات، فالطاعة تجلب الطاعة بعدها، والحسنة تقود إلى الحسنة التي وراءها، وبذلك نجد هذا الأثر لمن تأمل في هذه الخصائص.
ثم ينتقل إلى مرحلة أخرى -أيها الإخوة- وأريد أن يتصور كل أحد ذلك في نفسه، أليست هذه الخواطر التي ذكرتها تجول بالفعل، وتتدرج كما أشرت إلى تدرجها؟ ثم ينتقل إلى هذه المرحلة المهمة، وهي مرحلة الإتقان، فإذا صام يقول: لمَ لا أصوم وأخلص؟ وفي الحديث القدسي: (إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي).
فيرتقي إلى مرتبة عظيمة: إخلاص ليس فيه شائبة رياء، وتعلق بالله عز وجل يعظم محبته في خالقه ومولاه، ويعلق قلبه به، ويتدرج ليبلغ في بعض الأحوال إلى درجة الإحسان، التي هي أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
أليس ذلك أيضاً يجول في خواطرنا؟ ثم يقول -وهو الذي قد كان مفرطاً من قبل-: هأنذا أصلي، فلمَ لا أخشع؟ ولمَ لا أتدبر؟ ولمَ لا أحضر قلبي في صلاتي؟ ولمَ لا أكون فيها كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه سبحانه في الحديث القدسي المحفوظ المشهور: (قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين؛ فإذا قال عبدي: الحمد لله رب العالمين.
قال الله عز وجل: حمدني عبدي) إلى آخر الحديث، فيستحضر حينئذ أنه بين يدي الله، وأنه في مناجاة وصلة مباشرة مع الله، فيتغير قلبه، وتتبدل نفسه، ويصبح غير الذي كان من قبل، وذلك حاصل لنا جميعاً بتفاوت واختلاف في الدرجات، وربما ينكر قبله الذي يعرفه فيقول: هل أنا هو؟ أنا برقة قلبي، ودمعة عيني، وخضوع نفسي، وشعوري بهذه الروحانية الإيمانية، هل أصبح في صدري قلب غير قلبي الأول؟ وهل بثت في نفسي روح غير روحي الأولى؟ إنها نعمة كبيرة! ثم إذا به يتدرج في الإتقان، فيقول: أنا أنفق، فلمَ لا أنفق من الطيب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً)، ولمَ لا أتيمم الأحسن من مالي فأنفقه؛ لأن الله تعالى يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92]، وكم من جولات فيها مشاحة للنفس في أول الشهر، لكنها تنفق، ثم إذا بها تكثر، ثم إذا بها تصطفي ما قد يكون عزيزاً أثيراً عندها فتنفقه في سبيل الله عز وجل؛ فيرقى العبد إلى مراتب الإتقان في هذه العبادات.
ثم يتلو فيقول: ولم أتلو هذًّا كهذِّ الشعر؛ ولا يهمني إلا آخر السورة؟ لمَ لا أتفكر وأتدبر؟ ولمَ لا أفتح قلبي لأنجو من صفة الكفر والنفاق؛ لقوله عز وجل: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]؟ وإذا بقلبه ينفتح، وإذا بأنوار القرآن تنسكب فيه، وإذا ببصيرته ترى ما لم يكن يرى من قبل، وإذا به يدرك في معرفة الأحوال والأوضاع ما لم يكن يعرفه من قبل، وإذا به يقارن حينئذ وهو يتلو، والقرآن يأمر، فيبحث عن نفسه هل هو حيث أمر الله في كتابه، والقرآن ينهى، فينظر في حاله: هل كان موجوداً في تلك الدائرة المنهي عنها.
وتلك خصيصة، وذلك أثر عظيم من آثار الفضائل الرمضانية، فتأملوا فيه وتدبروه، واجتهدوا في تذكره واستحضروه.