ننتقل إلى باب آخر من الأبواب؛ وفي كل باب من هذه الأبواب قصص كثيرة، ولعلنا نقف عند باب من الأبواب العظيمة المهمة، وهو: باب الثبات والصبر عند الفتن والشدائد، ورب رجل صبر في الضراء، ولكنه عند السراء صار عكس ذلك، ورب رجل كانت له مواقف في الثبات عند الشدائد، ولكنه عند الإغواء والإغراء لا يثبت، ولكنا نقف هذه الوقفات لنرى بعض الصور التي في سير أولئك القوم مما يدلنا على أنهم بلغوا فيها الذروة والغاية في الثبات.
ومن أول ما نبدأ به: قصة عبد الله بن حذافة السهمي رحمه الله ورضي الله عنه، وهو الصحابي الجليل المشهور الذي نعلم من قصته ما كان من أسره، ثم إن ملك النصارى عرض عليه أن يتنصر وأن يعطيه نصف ملكه، فقال: لو كان ملكك ومثله معه وملك العرب ما رجعت عن ديني، فقال: اقتلوه، ثم أمرهم أن يصلبوه ثم يضربوا عن يمينه وشماله، فما تحرك عن موقفه وهو يعرض عليه، ثم أتى بأسيرين من أسارى المسلمين فغمسهما في قدر فيها زيت يغلي فيدخلان لحماً ويخرجان عظماً، فبكى رضي الله عنه ودمعت عينه، فقال: إلي به- لعله أن يكون قد رجع عن موقفه- فقال: كلا، وإنما هي نفس واحدة تلقى الساعة فتذهب، فكنت أشتهي أن يكون بعدد شعر رأسي أنفس تلقى كلها في سبيل الله عز وجل، فلما عجز عنه الطاغية قال له: هل لك أن تقبل رأسي وأخلي عنك، قال له عبد الله: وعن جميع أسارى المسلمين؟ قال: نعم، فقبل رأسه وقدم بالأسارى على عمر فأخبره خبرهم، فقال عمر: حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة وأنا أبدأ، فقبل رأسه، رضي الله عنهم أجمعين، فثبت في مثل هذه المحنة العصيبة الشديدة.
وكذلك كان ثباتهم في مثل هذه المواقف العظيمة واضحاً وجلياً كما في قولة أخرى يذكرها لنا شريح القاضي الذي كان من أئمة التابعين ومن المشاهير المعروفين من السلف الصالح رضوان الله عليهم، ونجد أيضاً قصصاً كثيرة في هذا، ومن ذلك الثبات عند فتنة الإغراء، وخاصةً فتنة الإغراء بالمال.
هذه الرواية يرويها عبد الرزاق، عن النعمان بن زبير الصنعاني: أن محمد بن يوسف بن يحيى بعث إلى طاوس بسبعمائة دينار أو خمسمائة دينار، وقيل للرسول: إن أخذها الشيخ منك فإن الأمير سيحسن إليك ويكسوك، يعني أن يقبل هدية الأمير، فقدم بها على طاوس، فأراده على أخذه فأبى، فغافله ثم رمى بها في كوة البيت؛ لأن الرسول يريد أن يقول: قد أخذها منه حتى ينال مكافئة الأمير، فرجع وقال لهم: قد أخذها، ثم بلغهم عن طاوس شيء يكرهونه من مخالفة أو قول، فقال: ابعثوا إليه فليبعث إلينا بمالنا، فجاءه الرسول، فقال: أين المال الذي بعث به الأمير إليك؟ قال: ما قبضت منه شيئاً، فرجع الرسول، وعرفوا أنه صادق، فبعثوا إلى الرجل الأول وبعثوه إلى طاوس، قال: أين المال الذي جئتك به؟ قال: هل قبضت منك شيئاً؟ قال: لا، فنظر حيث وضعه فوجده، فإذا بالصرة قد بنى العنكبوت عليها، فذهب بها إليه، أي: ما نظر إليها ولا التفت، ولا رأى منها شيئاً.
وهكذا نجد أيضاً في هذا الباب قصصاً كثيرة لكثير من أعلام السلف رضوان الله عليهم.
ومن صور الثبات أيضاً عند مثل هذه الفتن: أن سليمان بن عبد الملك قدم المدينة إبان ولاية عمر بن عبد العزيز عليها، فصلى سليمان بالناس الظهر، ثم فتح باب المقصورة واستند إلى المحراب واستقبل الناس بوجهه، فنظر إلى صفوان بن سليم، فقال لـ عمر: من هذا، ما رأيت أحسن سمتاً منه؟ فقال له عمر: هذا صفوان، قال سليمان: يا غلام كيس فيه خمسمائة دينار، فأتاه به، فقال لخادمه: اذهب به إلى ذلك القائم، يعني: عند المسجد أمامه، فأتى حتى جلس إلى صفوان وهو يصلي، ثم سلم فأقبل عليه، فقال: ما حاجتك؟ قال: يقول أمير المؤمنين: استعن بهذه على زمانك وعيالك، قال صفوان: لست الذي أرسلت إليه، فقال له: ألست صفوان بن سليم؟ قال: بلى، قال: فإليك أرسلت، قال: اذهب فاستثبت، فولى الغلام، وأخذ صفوان نعليه وخرج، فلم ير بها حتى خرج سليمان من المدينة؛ حتى لا يتعرض لمثل هذا الموقف.
كما أن هناك جوانب أخرى من الثبات عند فتنة النساء على وجه الخصوص، فإن هذه فتن عظيمة كان فيها لأسلافنا من العباد وأهل الصلاح مواقف.
قال محمد بن إسحاق: نزل السري بن دينار في درب بمصر، وكانت فيه امرأة جميلة فتنت الناس بجمالها، فعلمت به المرأة، فقالت: لأفتننه، فلما دخلت من باب الدار تكشفت وأظهرت نفسها، فقال: ما لك؟ فقالت: هل لك في فراش وطي، وعيش رخي، فأقبل عليها وهو يقول: وكم ذي معاص نال منهن لذة ومات فخلاها وذاق الدواهيا تصرم لذات المعاصي وتنقضي وتبقى تباعات المعاصي كما هيا فيا سوأتا والله راء وسامع لعبد بعين الله يغشى المعاصيا وأعجب من هذا قصة يذكرها أبو الفرج: أن امرأةً جميلة كانت بمكة، وكان لها زوج، فقالت: هل يرى أحد وجهي وجمالي ولا يفتن بي، كانت تفرح بذلك، فقال لها: نعم.
عبيد بن عمير، فقالت: أتأذن لي في فتنته، فأذن لها، فأتت لـ عبيد بن عمير كالمستفتية في ناحية من المسجد الحرام، فكشفت عن وجهها، فقال: استتري، فقالت: إني قد فتنت بك، فقال لها: إني سائلك عن شيء، فإن أنت صدقتني نظرت في أمرك، قالت: لا تسألني عن شيء إلا صدقتك، فقال: أخبريني: لو أن ملك الموت أتاك ليقبض روحك، أكان يسرك أن أقضي لك هذه الحاجة؟ قالت: اللهم لا، قال: صدقت، قال: فلو دخلت القبر وأجلست للمسائلة أكان يسرك أني قضيت لك هذه الحاجة؟ قالت: اللهم لا، قال: صدقت، قال: فلو أن الناس أعطوا كتبهم ولا تدرين تأخذين كتابك بيمينك أم بشمالك، أكان يسرك أن أقضي لك هذه الحاجة؟ قالت: لا، قال: صدقت، قال: فلو أردت المرور على الصراط ولا تدرين هل تنجين أو لا تنجين، أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: لا، قال: صدقت، قال: فلو جيء بالميزان وجيء بك فلا تدرين أيخف ميزانك أم يثقل، أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: اللهم لا، قال: صدقت، قال: فلو وقفت بين يدي الله للمسائلة، أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: اللهم لا، قال: صدقت، قال: اتقي الله فقد أنعم الله عليك وأحسن إليك، قال: فرجعت إلى زوجها، فقال: ما صنعت؟ قالت: أنت بطال ونحن بطالون -البطال: الذي ليس عنده عمل- فأقبلت على الصلاة والصوم والعبادة، وكان زوجها يقول: ما لي ولـ عبيد بن عمير أفسد علي امرأتي، كانت في كل ليلة عروساً، فصيرها راهبة.