أما المثل الأعظم الذي سنجعل وقفتنا معه؛ فهو المثل الذي تتقاصر دونه الأمثلة، والشجاعة التي تظهر كل شجاعة دونها بمراحل، شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم، القدوة العظمى في التضحية لهذا الدين والثبات عليه والدعوة إليه.
لما دارت الدائرة على المسلمين بعد نزول الرماة، وبعد أن كانت الجولة لهم، واشتد الاختلاط في صفوف المسلمين، وبدأت المعركة ينفرط عقدها، كان النبي عليه الصلاة والسلام في تسعة نفر من أصحابه، وكان من المتبادر إلى أذهان أهل الضعف والخور، أو إلى أذهان أهل السلامة أن من الأصلح له أن ينسحب بهذه الكوكبة حتى يرجع إلى المدينة، حتى يسلم أصحابه أو حتى يسلم هذه الأمة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم كان مضرب المثل والقدوة، كان علي بن أبي طالب يقول: كنا إذا احمرت الحدق، وحمي الوطيس؛ نتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم.
كان دائماً هو المقدم عليه الصلاة والسلام، فماذا صنع في ذلك الموقف؟ صاح: (يا عباد الله! هلموا إلي أنا رسول الله)، وهو يعلم أن صوته سيسمع عند المشركين قبل المسلمين، وكان الأمر كما كان، لقد سمع المشركون هذا النداء، وكان يعلم النبي عليه الصلاة والسلام أن هذا سيسمع وأن الجموع ستجمع، وأن الجيوش ستتوجه نحوه عليه الصلاة والسلام، لكنه أراد أن يبين للأمة أن الثبات في الجيوش بثبات قياداتها، وأن المضي بمضي كرامها، ولذلك نادى هذا النداء العظيم ليقول كما قال بعد ذلك في يوم حنين: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب فما كان له صلى الله عليه وسلم أن يتخلف عند مواضع التقدم، أو أن يتراجع في مواضع الثبات عليه الصلاة والسلام.
نادى هذا النداء ثم تجمعت الجيوش من حوله، فكانت صورة رائعة من صور تضحية الصحابة وفدائهم قل أن يجود التاريخ بمثلها مطلقاً، لذلك تجمع أولئك القوم حول النبي عليه الصلاة والسلام، حتى شج وجهه الكريم، وسال دمه على جبهته، ودخلت حلقات المغفر في وجنتيه، وكسرت رباعيته صلى الله عليه وسلم، حتى قال عليه الصلاة والسلام في هذا الموقف: (كيف يفلح قوم أدموا وجه نبيهم؟).
درس لنا كيف ضحى النبي صلى الله عليه وسلم وهو أشرف الخلق أجمعين؟ وبذل لأجل هذا الدين، وخاض غمار المعارك حتى سال دمه ولقي الموت؟ ونحن نريدها هينة سهلة، لو كانت هينة سهلة لكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان الإكرام للصلاح لكان أحق المكرمين هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان النصر يهدى لأحد لأهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه درس للأمة أنه لا يمكن أن ترفع لها راية، ولا أن تقوم لها قائمة، ولا أن ينتشر دينها، ولا أن تقوى قوتها وتعظم سيادتها إلا بالبذل والتضحية في سبيل الله عز وجل، والثبات على هذا الدين، فلذلك رسم النبي صلى الله عليه وسلم هذه الصورة المشرقة الرائعة في الثبات والتضحية في سبيل الله عز وجل حتى كان موئلاً تجمع حوله الصحابة من جديد، وانتهت المعركة نهاية مشرفة، وقد كان من الممكن أن تكون نهايتها أسوأ وأعظم شراً في الهزيمة على المسلمين، ولذلك ضرب النبي صلى الله عليه وسلم المثل والقدوة من نفسه.
فإذا كان الرسول قد دمي وجهه، وكسرت رباعيته؛ فما على أحد بعده أن يصيبه في سبيل الله عز وجل ما هو أشد وأعظم وأنكى من هذا.
نسأل الله عز وجل أن يجعل لنا في رسوله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، وأن يجعلنا ممن يتأسون بأصحابه رضوان الله عليهم، أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.