أيها الإخوة المؤمنون! حنين كثير وشوق كبير يشدنا دائماً إلى السيرة النبوية العطرة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، لنجلس في أفياء أحداثها مجلس التلاميذ الذين يتلقون العلوم والدروس النافعة المفيدة في أمور العقيدة والإيمان، والعبادة والأحكام، والسيادة والقيادة، والحرب والجهاد، والسلم وإدارة شئون الحياة؛ إنها مدرسة كاملة لإعمار هذه الدنيا على منهج الله عز وجل، وللسعي إلى رضوان الله سبحانه وتعالى في الآخرة.
وإن الوقفة التي نحب أن نقفها اليوم تتصل بأحداث غزوة أحد التي كانت في شهر شوال من العام الثالث للهجرة، وقد كانت لنا وقفات كثيرة سابقة، وفي كل مرة نأخذ ومضة من ومضاتها، ونقف مع درس من دروسها؛ لأنها معين لا ينضب من هذه الدروس والعبر والفوائد والمنافع، وإن درس اليوم الذي نقف عنده هو: درس التضحية والثبات؛ فإن سنة الله جل وعلا قد مضت أن هذا الدين لا يتحقق في واقع الحياة، ولا يثبت على هذه الأرض، ولا تعلو رايته خفاقة فوق البقاع، ولا يتحقق منهجه بين الناس إلا بجهد من أبناء هذا الدين يسبقه ويرافقه ويعقبه توفيق من الله عز وجل.
إن هذا الدين لابد له من علم ينشر، ودعوة تبذل، وأموال تنفق، ومهج وأرواح تزهق في سبيل الله عز وجل، إنه ليس أمراً هيناً؛ إنها الرسالة العظيمة الخالدة، إنها الأمانة الكبيرة الماجدة: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72]، ويخاطب الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم فيقول: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:5]، إنها أمانة هذا الدين والرسالة الخاتمة من رب العالمين، الدين الذي ارتضاه الله سبحانه وتعالى للناس أجمعين، حتى يرث الله الأرض ومن عليها يوم يقوم الناس لرب العالمين.
هذه الرسالة العظيمة، وهذا الدرس الكريم نقف مع ومضات منه لنرى صورته في غزوة أحد، ولست معنياً بالوقوف مع الأحداث وترتيبها، وإنما نأخذ هذا الدرس الواضح الجلي في هذه المعركة العظيمة من معارك الإسلام الخالدة التي قادها محمد صلى الله عليه وسلم برفقة الصحب الكرام الغر الميامين الأبطال الشجعان رضوان الله عليهم أجمعين.
وقبل أن نأخذ هذا الدرس من الصحابة رضوان الله عليهم نقف وقفة مع الجانب المناوئ للمسلمين، نقف وقفة لنرى صوراً من تضحية أهل الباطل، ونماذج من ثباتهم على باطلهم لا لشيء إلا تشبثاً بحمية الجاهلية، وإعزازاً لمذاهب الكفر، وإرغاماً للإسلام وأهله، فإن الكفر أيضاً لا ينتشر إلا ووراءه جهود تبذل، وأموال تنفق، وجهود وأعمال كبيرة، أفيكون أهل الباطل أحرص على باطلهم، وأغير على كفرهم، وأبذل له من أهل الحق والإيمان؟ لم يكن ذلك أبداً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بل كان أهل الإيمان هم السابقون في تضحياتهم، الشامخون في ثباتهم رضوان الله عليهم أجمعين.
لما انتهت غزوة بدر كانت جراح مشركي مكة عظيمة غائرة، ونكبتهم وخسارتهم فادحة، وعظمتهم قد مرغت في التراب، ونفوسهم تشتعل نيراناً للأخذ بثأر كفارهم وقتلاهم من النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام، ولم يكن الأمر مقتصراً على بدر؛ فقد كانت بين بدر وأحد وما بينهما من السرايا ما أظهر الله عز وجل به كلمة الإسلام، وكان آخرها: سرية زيد بن حارثة، التي عرض فيها لقافلة من قوافل قريش التجارية، ورغم أنهم تجنبوا طريق المدينة إلا أن سرية زيد بن حارثة أدركتهم وسبت كل مالهم وتجارتهم وفروا هاربين، فما كانت صورة استعدادات أهل الكفر؟ وما هي تطبيقاتهم العملية في ميدان المعركة؟